قلة فرص العمل ليست السبب الوحيد لهجرة الشباب. فهناك أيضاً الفوضى المسيطرة على الوطن والتي يشعر بها أكثر بعد أن يعتاد العيش في بلد الاغتراب
ملاك وليد خالد
تعود إلى لبنان في زيارات تنتظرها بشوق في اغترابك لتتمنى الهرب منه كل مرة في أسرع وقت ممكن. الموضوع لا علاقة له بالوطنية التي يحترفها ساسة هذا البلد، ولا بمدى محبتك للتبولة والكبة النية واللبنة المكعزلة. الموضوع متشابك ومعقد ومتداخل في نواحٍ كثيرة إذا ما قارنت ما تراه في بلاد «البدو» من تحضر سريع بما تراه في شوارع بلادك من ممارسات أبنائها الواثقين بأنهم أنزلوا من السماء في هذه البقعة الصغيرة الخضراء على الخريطة، المشتعلة دوماً بالمطامع والحروب، والتي يبذلون جهداً مضنياً في تخريبها عن قصد أو عن غير قصد. كل مرة أقول لنفسي إني يجب أن «أستحي من حالي» بسبب رغبتي الملحّة بالهرب أبعد ما يمكنني عن لبنان، لكني وصلت أخيراً إلى قناعة صادقة مفادها أني لن أستحي، لأن لي الحق، كما كل من يقطن هذا البلد الذي كان «أخضر وحلواً»، أن أعيش على نحو «آمن» ولائق على الأقل.
لماذا يعج البلد بتفاصيل صغيرة
تسمّ البدن؟
فالتفاصيل الصغيرة هي الأهم في المحصلة. هل يمكن أحداً أن يشرح لي لماذا يعج البلد بهذه التفاصيل الصغيرة التي تسمّ البدن؟ يعني: لماذا يقدم لك الشخص الذي يلبس أحد أنواع بدلات الدولة «ولعة» لسيجارة يفترض أنك تشتهيها حين تسأله عن منطقة التدخين في المطار رغم النداء الذي يتردد صداه في جميع أنحاء المطار والذي يفيد بأن التدخين مسموح في أماكن محددة فقط؟
لماذا تظلّ الحواجز بين خطي الأتوسترادات شبه مخلعة بعدما اقتحمتها سيارات الحوادث المميتة، بعد انقضاء أكثر من ثلاثة أعوام على الحادثة؟
لماذا يخالف الجميع، مقيمين ومغتربين، إشارات السير ويقطعون الإشارات الحمراء بينما يلتزمون بعدم مخالفة أقل القوانين تغريماً في بلاد اغترابهم أو في البلدان التي يسافرون إليها للاستجمام أو للعمل؟
لماذا ليس هناك من يراقب التلاعب بالأسعار في المرافق السياحية والتسويقية؟ لماذا يختلف سعر كوب العصير بين محلين في الشارع نفسه مع أني والله رأيت كيف أن المواد نفسها استُخدمت في المكانين؟
لماذا لا تسعيرة محددة لتاكسي المطار؟ فهل يعقل أن «يقنص» الشطار من السائقين الواصل إلى بيروت بخمسين دولاراً ليوصلوه إلى شارع المصارف في وسط البلد؟
لماذا تملأ الزبالة كل الزوايا في هذا الوطن السعيد؟ هل اعتزلت سوكلين عملها بعد موت الرئيس الحريري أم أن العمال السوريين «طفشوا» بسبب العنصرية التي مورست عليهم؟ أم أن زبالتنا أيضاً مرتبطة بنطنطة وليد جنبلاط السياسية بين أيام آذار؟
أيضاً، لماذا لا تكفي «تفويلة» البنزين في سيارة تويوتا 4 سيلندر لمشوار من الجنوب إلى بيروت، وهو مشوار لا يتعدى 100 كيلومتر، فيما تكفي لقطع 400 كيلومتر في سيارة 6 سيلندر في الإمارات مثلاً؟
«لماذات» كثيرة بعد تعج في رأسي وتؤرق بالي، أتوقف هنا لأني أشعر أني أريد كسر شيء أمامي كالكمبيوتر الذي تغني منه فيروز لوطنها هي وراجح، وطن لزهر الزمان الضايع. «عنجد شو ضايع هالوطن»، لم ينوجد يوماً إلا في الأغاني.
لا أدري من أين تسربت إلى حياتي وحياة كثيرين كذبة أن لبنان بلد «غير شكل»، ربما الأخوان رحباني هما السبب. في كل حال، لا ينفع لومهما وتحميلهما مسؤولية «شعب البامبرز». ففي بلادنا، نتدلع كأننا أطفال في أحضان أمهاتنا، و«معليش نعملها ع حالنا»، فالبيت بيتنا وأعز!