كلما كثر عدد المتسوّلين عند تقاطعات الشوارع الرئيسية في بيروت، كلما ازداد عدد السيارات التي تقفل شبابيكها بوجههم. يدلّ المشهد إلى امتناع عام من اللبنانيين عن مساعدة المتسوّلين، لكن جولة في الشارع تدلّ إلى عكس ذلك، وخصوصاً في شهر رمضان. يرغب كثير من اللبنانيين في مساعدة المحتاجين، لكنهم يحارون في تحديد من يستحق فعلاً الحصول على بعض من تعبهم
مهى زراقط
يضع عيسى يديه على حافة مكتبه ليتمكن من دفع كرسيّه إلى الخلف، ثم الوقوف. بخطوات سريعة ينتقل إلى مكان واسع في الغرفة ويروح يحكي محاولاً قدر الإمكان تجسيد شخصية الرجل الذي سيكون محور قصته. يقول: «هو في الخامسة والأربعين، كان يقف عند زاوية البناية التي أقيم فيها ويحمل بيده ورقة صغيرة. قال لي أولادي يا أستاذ، أولادي لا يستطيعون الدراسة ليلاً بسبب انقطاع الكهرباء وأنا لا أملك 80 ألفاً قيمة الفاتورة. من أين أدفعها وقد طردوني من العمل بعدما أفلست دار النشر التي كنت أعمل فيه مدققاً لغوياً؟». يكرّر عيسى كلمة أولادي بنبرة حزينة، وكأنما يريد أن يدلّ إلى العنصر الذي دفعه إلى التعاطف مع الرجل الذي كان «يرتدي ثياباً محترمة ولا يبدو عليه العَوَز»، يصفه.
لكي يدرس الأولاد، وجد عيسى، الذي لم يكن يحمل إلا 20 ألفاً في جيبه، نفسه مجبراً على التوجه إلى دكان قريب ليقسمها بينه وبين الرجل. يقول ساخراً من نفسه: «أعطيته 10 آلاف ليرة من دون أن أقول له إني بدوري لا أملك قيمة فاتورة الكهرباء في بيتي».
عيسى رجل خمسيني. كان سؤالنا له عن المتسوّلين الذين يصادفهم يومياً في الشارع، لكنه أكد لنا أنهم لا يستوقفونه إلا في حالات خاصة جداً. «أما عندما أجد رجلاًً في سني عاجزاً عن تأمين الإنارة لأطفاله ليدرسوا، عندها لا يمكنني تجاهله».
يدفع علي للمتسوّلين عندما يكون برفقة أطفاله ليتعلّموا المساعدة
ليس عيسى وحده من سيغيّر مسار السؤال، وينقله من الحديث عن المتسوّلين الذين يعترضوننا يومياً إلى شريحة أخرى من المواطنين يضطرها تردّي الوضع الاقتصادي إلى السؤال. جولة في شارعي الحمرا ومار الياس تكشف أن الكثير من اللبنانيين لا يثقون بالمتسوّلين في الشارع الذين يحسنون استخدام المناسبات الدينية والاجتماعية، فتجدهم عند أبواب الجوامع والكنائس أيام الجمعة والآحاد، وتكثر حركتهم في شهور سياحية، ودينية كشهر رمضان. لذلك فإن من يدفع لهم، يفعل ذلك لأسباب لا ترتبط مباشرة بالرغبة في مساعدة متسوّل بعينه، بقدر ما يفعل ذلك لغاية في نفسه.
علي، أستاذ جامعي. يقول إنه يساعد الفقراء عادة عبر التبرّع لمؤسسات يثق بأنها توصل المال إلى مستحقيه من العائلات المحتاجة، لكن «عندما يكون أطفالي برفقتي، أحرص على أن أدفع للمتسوّلين لكي يتعلموا مساعدة الفقراء». لا يقول علي لأطفاله إن هؤلاء قد لا يكونون محتاجين فعلاً إلى المال، أو أنهم أفراد في عصابة كما يعتقد هو أنها الحقيقة، ذلك أن «التعليم الإيجابي أفضل من التعليم السلبي».
أما روان (30 عاماً)، فتخضع مساعدتها للمتسوّلين إلى مزاجها الخاص، وما قد يوفره لها الأمر من ارتياح نفسي. تقول بصراحة: «عندما أشتري الكثير من الأشياء وأدفع مبالغ كبيرة، أشعر بضرورة أن أساعد فقيراً وكأني أريح ضميري». لكن ضميرها لا يرتاح تماماً عندما تفعل ذلك: «لأني، في المقابل، أعتقد أننا إذا دفعنا لهؤلاء الأطفال فنحن نساهم في تشجيعهم على الاستمرار في التسوّل عوض دفعهم إلى تعلّم مهنة ما».
لذلك ربما، يفضّل باسل (25 عاماً) أن يساعد هؤلاء بطريقة مختلفة. يقول: «عموماً أنا لا أثق بهم، لكن عندما قال لي أحد الأطفال مرة إنه جائع لم أتردد في دعوته وثلاثة من زملائه إلى تناول سندويشات شاورما. لا أعتقد أنه سيضرّهم أن يأكلوا».
تشابه الآراء في ما يخصّ العلاقة مع متسوّلي الشارع، هو ما يدفعنا إلى الالتفات إلى النماذج الأخرى التي يقدّمها محدّثونا عن محتاجين مختلفين اعتادوا مساعدتهم. مثلاً، تقتطع ابتسام (40 عاماً) مبلغاً شهرياً من راتبها وتقدّمه لعامل التنظيفات في الشركة التي تعمل فيها «لأني أعرف أن راتبه لا يكفيه لإعالة عائلته». أما عندما تطلب منها سيدة قادرة على العمل المال «فإني أعرض عليها مباشرة أن تساعدني في تنظيف منزلي على أن أدفع لها أجرة يومها». برأيها، كل مال يُدفع في إطار مختلف يعدّ تشجيعاً لهؤلاء على سرقة تعب غيرهم.
هذا ما لا توافق عليه غادة (37عاماً)، وهي ربة منزل. تلاحظ هذه السيدة أن بابها بات يطرقه الكثير من المتسوّلين «وغالباً ما يكونون من النساء، لا أستطيع ردّ طلبهنّ لأني أعرف صعوبة أن يصل الإنسان إلى مرحلة السؤال. لا أفكر بأنهنّ قد يكنّ كاذبات، بل بأني من خلال دفع المال لهنّ أردّ ضرراً قد يلحق بأطفالي. نيتي أنا هي التي تحكم قراري».
النيات الطيبة لا تقنع زينة، العاملة في أحد مكاتب السفريات. بعكس غادة تماماً، هي لا تدفع المال لسيدة «تحمل جزداناً»، أي من تحاول الإيحاء بأن الفقر حلّ عليها حديثاً. برأيها «الفقير يكون عزيز النفس دائماً. أنا من الفقراء وقد علّمني أبي أن أقفل بابي على نفسي عندما أكون مفلسة، وأن أكتفي بأكل الزيتون، المهم ألا أمدّ يدي بالسؤال لأحد». توافقها زميلتها الرأي، وتكشف أنها شخصياً فضلت السرقة مرة على السؤال: «كنت تلميذة في المدرسة ولم يكن أهلي يعطونني مصروفاً. طلبت مني أختي عصيراً لتشربه فوجدت نفسي أسرق ما بقي من زجاجة عصير كان يشرب منها أحد التلاميذ».
تنجح الفتاتان في تحويل الحديث عن مساره ليصبّ في إطار تعريف الفقر وسلوك الفقراء المرتبط بعزّة النفس. لا تكادان تكملان حديثهما، حتى يدخل طفل يبيع العلكة إلى المحلّ. كان النهار يقترب من نهايته، تنظر زينة إلى زميلتها وتقول لها «أعطه ألفاً». تفعلان من دون أن تأخذا علكة منه، وتشرحان سبب مساعدته رغم كل ما كانتا تقولانه: «ربما كان يحتاج إلى مبلغ معيّن يقدّمه للمسؤول عنه، عسانا نقصّر عليه جولته فيعود قبل الإفطار».