حسام كنفاني


لإرسال رسالة الى المحرر، انقر هنا

مختلطة هي الأمور في قطاع غزّة. ومربكة هي تصرفات حركة المقاومة الإسلامية (حماس). فرض تدريجي لحكم الشريعة الإسلاميّة من جهة، ومواجهة شرسة قاتلة للقضاء على «إمارة جند أنصار الله» من جهة ثانية. خطوتان متناقضتان من الحركة الحاكمة في القطاع، لكنهما غير متعارضتين إذا ما أُخذت الأسباب والخلفيات التي تحكم تصرفات «حماس» في قطاع غزّة بعين الاعتبار. فمواجهة «حماس» مع «جند أنصار الله» لا تعني مطلقاً أن الحركة ضد إقامة «إمارة إسلاميّة» في القطاع المحاصر، لكن موجبات أخرى غير مرتبطة بالخلاف على المسمّى فرضت المواجهة.
ومن المعروف أن خلافاً فقهيّاً عميقاً يقوم بين فكر الإخوان المسلمين، الذين تعدّ «حماس» جزءاً منهم، وفكر السلفيين الجهاديين، الذين يصل بهم الأمر إلى حد تكفير «الإخوان» ووضعهم في خانة «الزنادقة»، بحسب المصطلحات الدينية.
مجموعة كبيرة من الانتقادات يكيلها السلفيّون لـ«الإخوان». يدرجون عدداً من المآخذ على أسلوبهم الديني والسياسي. يرون أن «الإخوان» يسعون إلى الوصول إلى الحكم بشتى الطرق، وأنهم يأخذون من الدين ما يقدرون ويؤجّلون تطبيق ما يعارض وصولهم إلى الحكم. كما يستنكرون إيمان «الإخوان» بـ«الحدود الوطنية والتعددية الحزبية وبالانتخابات الديموقراطية والاحتكام إلى صناديق الاقتراع». وإضافةً إلى ذلك، يهاجم السلفيّون العلاقة التي تربط «الإخوان» عموماً، و«حماس» خصوصاً، بإيران التي تمثّل الحكم الشيعي في العالم الإسلامي.
في المقابل، فإن «الإخوان» يهاجمون تقوقع السلفيين وعدم قدرتهم على مجاراة متطلبات العصر، السياسية والاجتماعيّة، وركونهم إلى التطرّف في تعاملهم مع الواقع المعيش.
على هذه الأرضيّة يقوم الخلاف بين «حماس» والجماعات السلفية في غزّة. خلاف لم يمنع التعاون في مرحلة من المراحل، على اعتبار أن «عداء إسرائيل» يوحّد بين الطرفين، غير أن خرق الخطوط الحمر كان سيؤدّي في النهاية إلى المواجهة التي وقعت في رفح قبل أسبوعين مع «جند أنصار الله»، وتلك التي حصلت في حي الصبرة في غزة مع «جيش الإسلام» وآل دغمش.
الخط الأحمر الأساس كان في إعلان «الإمارة الإسلاميّة»، التي ترى فيها «حماس» خطراً على حكمها في قطاع غزّة، ولا سيما أنها تستفزّ القاهرة مباشرةً. إذ سبق لرئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشعب المصري، مصطفى الفقي، أن حذّر صراحةً من أن «مصر لن تتحمل قيام إمارة إسلامية على حدودها الشرقية».
«حماس» تحرص على عدم استفزاز القاهرة بالشكل الذي أظهره خروج الجماعات السلفية إلى العلن، ومجاهرتها بـ«الإمارة الإسلامية». كما أنها تعلم أن أي إجراء من هذا القبيل سيضاعف التجنيد العالمي ضدها، ويعطي الضوء الأخضر لمزيد من الاعتداءات على قطاع غزة، باعتباره أصبح «امتداداً لتنظيم القاعدة»، ونموذجاً مصغّراً لأفغانستان وباكستان والصومال.
لكن «حماس» تدرك أيضاً كيف تمرّر أيديولوجيتها من دون استفزاز فاقع. تدريجياً تُملي الحركة شروطاً إسلامية تنظيمية على يوميّات الفلسطينيين في غزة تحت عناوين إداريّة، كان آخرها فرض الحجاب على طالبات الثانويّة العامة في المدارس الحكوميّة في قطاع غزة. فرض لن تفلح محاولات «حماس» التنصّل منه بحجج، أقل ما يقال فيها إنها غير منطقية. فإعلان وزارة التربيّة أن فرض الحجاب «قرار شخصي» من بعض إدارات المدارس لا يمكن تصديقه، وخصوصاً أن المدراس التي يجري الحديث عنها هي مدارس حكومية، وكل إجراءاتها خاضعة لقرارات وزارة التربيّة، ومن غير المسموح لها بمثل هذه الاجتهادات.
وإذا جرى التسليم بأن الأمر مسألة اجتهاد شخصي، مع ما أظهرته حكومة «حماس» من حرص على إبعاد نفسها عن القرار لعلمها بمدى حساسيته وأبعاده، فإنّه كان بإمكانها اتخاذ قرار مضادّ بالعودة إلى الزي القديم، ورفض أي اجتهاد من هذا القبيل. غير أن هذا لم يحدث، ولن يحدث. فالأمر أبعد من مسألة الاجتهاد الشخصي، ولا سيما أنه ترافق مع قرار «تأنيث المدارس»، الذي لم تنفه حكومة «حماس»، بل عمدت إلى تبريره من منطلقات دينية قائمة على الفصل بين الإناث والذكور، بغض النظر عن المعايير التربوية القائمة على الكفاءة والاختصاص ومصلحة الطالبات التعليمية.
كذلك فإن سوابق حكومة «حماس» لا تدفع إلى تصديق «براءة» وزارة التربية من فرض «الجلباب»، وخصوصاً أنه سبق أن فُرض على المحاميات في محاكم قطاع غزّة، وبقرار من وزارة العدل. كما أن إجراءات الرقابة التي تمارسها الحركة في الأسواق وعلى الشاطئ تشير إلى قرارات غير معلنة تطبّقها الحكومة الإسلاميّة تدريجيّاً، لتصبح مع الوقت إجراءات طبيعية في إمارة إسلامية غير معلنة.
وهكذا فإن «حماس» لا تختلف مع «جند أنصار الله» على الإمارة، بل على إشهارها وهويّة أميرها.