حسن خليللم أعلم، لولا قسوتك ومغادرتك، أن الفراق صعب إلى هذا الحدّ. حتى فراق والدي ووالدتي لم يحدثا في كياني صدمة كالتي أحدثها فراقك. ماذا أكتب عنك، ومن أين أبدأ؟ منذ الطفولة عندما تظهر فجأة في سيارتك «السيتروان» موديل «أربعة أحصنة» قادماً من مرسيليا بها، وهي لا تضمن حتى رحلة بين بيروت وبحمدون؟ أو عن احتضانك العائلة جميعها خلال إقامتك في فرنسا؟ كنت الخال والأخ الأكبر والصديق والعالم والمفكّر والثائر والرافض والمحارب والمجاهد في كل جوانب الحياة، التي كنت تراها عكس ما تراها العّامة. أحببت الحياة إلى أقصى درجات الاستمتاع، لكن بأسلوبك النخبوي لا المادي. العشاء معك كان ذا لذّة مزدوجة: تذوّقك للطعام، وإبداعك في الكلام بعده. كنّا نتنافس في الكتابة والنقاش، نتعارك إلى حد العراك الكلامي، لكن لنتفق على رفض المادية والمذهبية والنرجسية التي كنت تحاضر عنها.
لقد عدت إلى لبنان هذه المرة لأشارك في مراسم وفاتك، بعد أن عودتني أن نلتقي في «الروضة». لذّه الأركيلة عندي لم تكن إلا لأنها من «التنباك» الخاص منك، وبالجلسة الأمسية معك. تعجز كلماتي يا خالي وأستاذي وصديقي عن وصف ما أغنيتني به. ولكن أعترف بأنني كباقي البشر: لا نعرف قيمة الشخص إلا بعد الفراق الأبدي. وها أنت قد انتقلت إلى الحياة الأبدية، حيث المادّيات لا معنى لها.
لقد أنصفتك الصحافة بعد وفاتك، ويا ليت مجتمعك أنصفك قبلها. عدت بعد غربتك إلى بيروت وصور مدفوعاً بحبّك للبحر الذي اختطفك منّا. رفضت أنوار باريس وبهجتها واستأنست بغياب الشمس يومياً أمام عينيك، وأنت تقرأ وتكتب على طاولتك وكرسيك المعتادين في «قهوة الروضة» المتواضعة، تقول لي تكراراً من دون ملل إن رؤية غياب الشمس في بيروت أقرب إليك من كل عواصم العالم.
كثيرون تحدثوا عن مراراتك قبل رحيلك. هذا شأن خاص. ولكني أجزم بأن التغيير الذي حصل في المفاهيم الإنسانية والاجتماعية كان هو المرارة الكبرى عندك. لم يعد المعيار الثقافة والعلم والمعرفة، بل رصيد الحساب والتوزيعات الرشوية. رفضت ذلك وتمردت، ولك الحق.
ليتهم عرفوك يا خالي وأستاذي وصديقي كما عرفتك.