حسان الزين


لإرسال رسالة الى المحرر، انقر هنا

على عكس ما يبدو، الطاقم السياسي اللبناني لا يناسب البرامج الكلامية التلفزيونية، بالرغم من موهبة بعض نجومه وكومبارسييه وقدراتهم المتنوّعة على التفوّه والرغو. الطاقم السياسي اللبناني بالكاد إعلاني، ويشتبه عليه وعلى المشاهدين أنه درامي. مفهومه للإعلان والدراما، على حد سواء، قديم وبائس. فهو ينفّذ الإعلان معتقداً أنه يعمل دراما. لذا، تفقد محطات سياسية عديدة، شبه يومية، الجاذبية والتأثير. فعلى الرغم من شغل هذا الطاقم السياسي حيزاً واسعاً من البث التلفزيوني، إلا أنه بليد، ويعجز، في أدائه، عن جذب المشاهد، إلا في حال سخونة الأحداث. فالأحداث هي المهمة، أو بالأحرى السلعة التي يعلن لها ويتحدث عنها. ويدرك الطاقم السياسي ذلك. حتى حسن نصر الله ووليد جنبلاط وميشال عون ووئام وهّاب، الأكثر جاذبية بين طاقم الممثلين السياسيين، يعرفون ذلك، ويسعون إلى التغلب عليه، أو الإفادة منه، فيحرصون، في إطلالاتهم وحركاتهم، على تقديم الحدث والجديد والمثير.
من هنا، ليس غريباً أن «يصوم» السياسيون عن «الكلام»، وهو تلفزيوني عندهم، في رمضان، شهر الدراما على أنواعها. فهم على يقين بأنهم أقل جاذبيّة مما يُعرض على الشاشات، بما في ذلك المملّ والرتيب منه، وخصوصاً أنه لا «سلع» يستوردونها الآن، وإن كان هذا الشهر موسم الأكل أيضاً.
لكن مشكلة الالتباس، الذي يقع فيه الطاقم السياسي وبالتالي المشاهد، ليست فنيّة. المشكلة هي أن غالبية شخصيّات الطاقم السياسي بليدة ومسطّحة وتحتاج إلى مونتاج قبل المكياج، وتفتقر إلى صدقية الأداء التمثيلي. فهم يتصرّفون، أمام الكاميرا وخارج إطارها، على قاعدة أن المشاهد يعرف أنهم يكذبون ويبذلون الجهود ليكسبوا اقتناع المشاهد. وكأنهم يدركون أن ثمة أزمة ثقة بينهم وبين المشاهد، الذي يعرف أنه يتابع إعلانات متقطّعة، لا دراما أو تمثيلاً بالمعنى الفني. وتتغذى أزمة الثقة العميقة هذه من اقتناع لدى المشاهد والسياسي في آن واحد، مفاده أن السياسي آت إلى المشهد إمّا عبر الوراثة وإما عبر القدرة على الكذب الذي استبدل بالأداء التمثيلي، أي إنه، باختصار وصراحة، ليس فناناً ممثلاً.
السياسيّون إعلانيون، لا لأنهم يسوّقون ما يشاؤون وما يُشاء لهم أن يفعلوا، بل لأنهم يقطّعون الحكايات والخيوط، لا يتركون حياة تمشي وإنساناً يراكم وحدثاً ينمو ويتصاعد ويعقد خيوطه ثم يبسطها ويكشفها. فإذا بدأوا بخيط لا يشدّونه ولا يدوزنونه. الفساد يحتاج إلى ذلك وينتجه، وكذلك المذهبية والسيطرة. بمعنى ما، هم ضد الدراما. وليس غريباً ألا يُنتجَ بلد مثقل بحضور السياسيين دراما. فالإنتاج الدرامي لا يحتاج إلى التمويل والمخرج والكاتب والفريق الفني وحسب، بل يحتاج، أولاً، إلى بيئة مفهومة وشفافة وليست متقطعة وتحت المطرقة؛ ويحتاج أيضاً إلى المؤسسات وأين هي في ظل الفساد وسيطرة 5 في المئة من اللبنانيين على مقدّرات البلاد والعباد وعلى المصير والتفاصيل (؟)؛ ويحتاج أيضاً وأيضاً إلى الإنسان، وهذا في لبنان مصادر للمذاهب والظروف الاقتصادية الصعبة. فالتسلسل والاستمرار والتخطيط والوضوح والاطمئنان كلّها عناوين باتت بالنسبة إلى المواطن ترفاً صعبَ المنال. فحتى في سوريا التي يصف السياسيون عندنا نظامَها بالشمولي وبأن فئة صغيرة تحصل على امتيازاته، فيما الفقر مستشرٍ، هناك دراما. وقد استطاع هذا القطاع أن يتكيّف مع ظروفه ومع الرقابة وأحياناً مع خطاب النظام ومصالحه.
لا يمكن طاقماً سياسياً كهذا أن يكون درامياً. فالدراما تعني ترك السرد والقصص والسياقات والشخصيّات تتدرج وتتحرك وتنمو وتتفاعل وتتنفّس... وتصل إلى عقد وخواتيم، بينما مصلحة هذا الطاقم هي تقطيع الحاضر والواقع وكل الأواصر، وإقامة سواتر بين الناس وحاجب سميك عالٍ بين الكاميرا والكواليس، حيث يُسرح ويُمرح. ففي هذا يتساوى الطاقم السياسي برمّته، الوارث والمحدث، ابن العائلة وابن المافيا، اللذان يشتركان في «سياسة» واحدة، ويتعاقدان على مصالح متبادلة. الاثنان هذان لا يحتاجان إلى تاريخ، ولا إلى دراما وشفافية، يحتاجان إلى الإمساك بالراهن والواقع. التاريخ بالنسبة إليهما يمكن الاستعاضة عنه بديكور تراثي باذخ، سواء كان أثاثاً أو حزباً.