هشام نفاع*لعلّ أحد أكبر إنجازات الرئيس الأميركي باراك أوباما، عربياً، يقع في حقل التخدير. فالواقع السياسي لا يزال نفسه، لم تطرأ عليه تغيّرات حاسمة، وإشارات التغيير فيه غائمة، ومع هذا فالانطباع السائد أنها «فُرجت». وهو وضع إشكاليّ يفرز إلى جانب وهم الارتياح شعوراً عميقاً بالقلق. فالجميع في حالة انتظار لذلك «الشيء» الذي يقتنع كثيرون بأنه آت لا محالة رغم أنهم لا يعرفون ما هو، لأنه ببساطة من العالم الافتراضي.
لكن الوضع مختلف بالطبع في الواقع الحقيقي. ففي القدس الشرقية المحتلة يتواصل المشروع الاستيطاني الاحتلالي ــــ الإحلالي بوتيرة حادّة. آخر تجلياته اقتحام حي الشيخ جرّاح واستيطانه في وضح النهار. ليس ما يعادل شراسة هذا الفعل سوى الخنوع العربي الرسمي. وأوله الفلسطيني الرسمي. هناك أخبار جديدة للسّادة: لم تعد الجماهير تقتنع أبداً بصفحات استنكاراتكم وشجبكم. صرتم (أكثر من ذي قبل) مثيرين للسخرية.
بين رام الله وغزة جدران وحواجز وثكنات عسكرية إسرائيلية. وفي كل منهما سلطة مخدّرة بوهم السيطرة، وشطرا شعب يعاني معاني الاحتلال على جلده يومياً. وكأن هذا لا يكفيه كي تُحمّل على كاهله أيضاً طقوس سلطوية وطنية جديدة (ومزدوجة) لا تحقق له الشعور بالتحرر ولا ممارسته.
في لبنان خفت وطء المشروع الأميركي من إنتاج بوش ــــ تشيني، لكن البلد لا يزال معرّضاً للتخريب. وقد يكون هدفاً للحرب الصهيونية المقبلة مع اشتداد الأزمات الداخلية في إسرائيل. الحرب استكمال للسياسة، صحيح، لكن يجري إشعالها أحياناً للتغطية على أزمات ومعضلات داخلية.
والعراق؟ ما الجديد فيه سوى تواصل الانفلات الدموي تحت سلطة واقعة تحت القبضة الأميركية؟ أما على سائر خطوط الطول والعرض العربية، فليس هناك بشائر تزفّ أيّ بشرى للطبقات الفقيرة المستغَلة المجهّلة المدفوعة إلى مربعات التعصّب والغيبيّات قسراً.
حسناً، الأمور تحتاج إلى وقت. لكن ما الذي يقوم به اللاعبون الرسميون العرب في هذه الأثناء؟ كلهم يسوّقون سلعة مفادها أنهم بانتظار برنامج التسوية الأميركي. كأنه القدر المحتوم. بعده سيتوالى بث الشريط القديم ذاته، ستدور العجلة، تتحرك، تصل الذروة، قبل أن تعود إلى نقطة الصفر. هذا هو بالضبط ما يسمى «كسب الوقت» بالنسبة لحكومة إسرائيل.
قبل سنوات عبّر رئيس حكومتها السابق أرييل شارون أنه يمكن الانتظار مئة سنة في الوضع الراهن لأن هذا أفضل لمصالح إسرائيل. حكومة نتنياهو الحالية العفنة لم تسقط بعيداً عن شجرة شارون السامّة. وعفواً من نيوتن وتفاحته! وها هي تقابل التنديدات والانتقادات بالممارسات: حصار غزة يتواصل، تقطيع الضفة مستمر، اقتحام أجواء لبنان وأراضيه بالتجسّس على حاله، ووضع اشتراطات من نوع «مفاوضات بلا شروط مسبقة» يتصاعد.
هذا الشرط بحاجة إلى ترجمة، والدقيق القول فيه: مفاوضات بلا حديث عن حقوق سابقة. فلا الجولان سوريّ بالضرورة ولا أراضي 1967 أصلاً يجب أن تعرَّف كمناطق محتلة حتماً. ناهيك عن حقوق اللاجئين. هذا هو المنطق الإسرائيلي غير الجديد، مهما تعددت ألوان حكوماته. وهو، بالتوجّه والممارسة، لا يزال ناجحاً وناجعاً بسبب غياب السياسات العربية الرسمية أو غيبيّاتها.
هنا نحتاج للسؤال عن أولويات هذه الأنظمة؟ فما هي علاقتها بمصالح الشعوب أو بالكرامة الوطنية؟ أو ما هي المسافة بين ذلك وبين مصلحتها بالبقاء والتكيّف مع الظروف حتى لو وصلت حدّ «بوش ــــ تشيني»؟ لقد رأى الجميع أن ذلك المشروع المثير للحرج بصراحة، الذي يحمل عنوان «زرع الفوضى»، والمعادي لجميع مصالح الشعوب العربية، قد جرف الأنظمة العديمة الحول والحيل بسهولة واستسهال.
أصلاً، وعلى سبيل التقريب الفوتوغرافي فقط، مَن احتفل قبل شهر مع شعب مصر، والشعوب العربية، وسائر أشقائهم من شعوب العالم، بذكرى ثورة 23 يوليو المصرية المشرقة؟ لم يكن سوى رئيس حكومة يمين إسرائيل واستعلائها وجرائم حربها، نتنياهو. وأين؟ في تل أبيب، درّة تاج المشروع الصهيوني الاستعماري. وهكذا، بضربة واحدة، جلس من يمثّل أكثر الحكومات عمالة لمشاريع الاستعمار بكل أشكاله القذرة، في حفل لإحياء ذكرى إحدى التجارب الإنسانية الحديثة المشرقة في/وبفعل عدائها للاستعمار. هل ستكفي هنا كلمة: مفارقة؟
وكأنّ هذا كله لا يكفي، حتى يستغل نتنياهو الحدث كي يواصل سياسة الخداع ومحاولات كسب الوقت الإسرائيلية المعهودة. فقد أشار بما يشبه الإيجابية إلى «المبادرة العربية للسلام». تلك التي أطلقت إسرائيل، فور إعلانها، نيران عدوان «السور الواقي»، 2002، الذي عاثت فيه مجازر وتدميراً ضد الشعب الفلسطيني في المناطق المحتلة عام 1967. مع هذا، كان بوسع دقيقي القراءة الانتباه إلى اعتبار نتنياهو المبادرة «قادرة على خلق جوّ» للتفاوض. جوّ! نتنياهو واضح جداً. فهو لم يخرج عن سياسة إسرائيل الواضحة، والتي لا يهمّها سوى إنتاج «جوّ من التفاوض»، أي صورة مؤطرة برّاقة لا غير، خالية من أي مضمون قد يلامس بأوهى علاقة مفهوم «سلام الشعوب». هل قلنا كسب الوقت؟!
وبوسع دقيقي القراءة الانتباه، أيضاً، إلى أن نتنياهو كان صرّح قبل ذلك بيوم واحد فقط، في البرلمان وعلى الملأ، بمبادئ رؤيته للتسوية (!). ومنها ما يلي: «الاعتراف بإسرائيل دولة يهودية كدولة الشعب اليهودي القومية، وحل مشكلة اللاجئين خارج حدود إسرائيل». نتنياهو لم يفاجئ أحداً طبعاً. فهو شديد الوضوح لمن ليس في مصلحته تربيع الدائرة أو تدوير المربع، أو تثليث هذا وذاك.. لكنّه نجح لا شك بتوسيع مساحة مناورته حين اقتحم (بموافقة مصرية!) أحد احتفالات 23 يوليو، ليبثّ ما بثّه من عنجهية عنيفة، تحت لواء ثورة شعب مصر الحديثة!
وهكذا فلا جدوى من انتظار العسل من جميع هذه الدبابير. سيكون من المريع تعليق الآمال على أفق مسدود بالمصالح الإمبريالية ومجروراتها الرجعية. وحدها كادحات النحل المنتجة، قادرة على الانتفاض. والأيام آتية، لأن طفيليات الأنظمة ماضية في غيّها. بمقدورها المراوغة والاستمرار إلى حين، لكن التاريخ يعلّمنا أنه ليس لعبة. سنرى يوماً ما يوماً جميلا ملؤه انهيارات أنظمة العمالة. ليس لأن هذا قدرٌ، لا، بل لأن الشعوب قد تمهل لكنها لا تُهمل. حالياً سنعتمد بُعد النظر، فلنا عبرة في شعوب أميركا اللاتينية التي هبّت وانتصرت. العقبى لنا!
* صحافي فلسطيني