قاسم عز الدين*يتراءى لبعض المتعاطفين مع المقاومة من ذوي الميول اليسارية، أن المقاومة تتغافل عن الاهتمام في القضايا الاجتماعية ــــ الاقتصادية لأسباب أيديولوجية. ويأخذون عليها إهمال فكرة «الجبهة الوطنية العريضة»، وهذا برأيهم إشارة إلى خيارات المقاومة في تحالفات سياسية تستثني ما يمثّل اليسار في القضايا الاجتماعية. بل ذهب منهم إلى القول «بجناحي المحاصصة الطائفية» في إشارة إلى أن المقاومة تتشارك في البرنامج الاقتصادي ــــ الاجتماعي مع الجناح الآخر في السلطة.
ولا يدل هذا النوع من النقد التبسيطي على سعة إدراك طبيعة السلطة وبرنامجها الاقتصادي ــــ الاجتماعي، بمقدار ما يدل على إحياء تصورات وهمية ضيقة تجاوزتها التيارات اليسارية في حركة العولمة البديلة إثر عملها الشاق على مستويات ثلاثة: أ ــــ إعادة قراءة تجاربها، لا سيما قراءة الحدود الفاصلة بين المسألة الاجتماعية والمطالب النقابية. ب ــــ قراءة التحولات النيوليبرالية المعولمة من الكوني إلى المحلّي ومن العام إلى الخاص. ج ــــ تغميس يديها في الحلول والبدائل العملية على مستوى تشابك السياسات النيوليبرالية بين العالمي والإقليمي والوطني والمحلي. لكن يسار بلادنا يزداد تمسكاً بتصوراته كلما كشفت الأزمات عقم هذه التصورات عوض أن يجدّد نفسه بتجديدها.
والحال، فإن المحاصصة الطائفية هي شكل الحكم السياسي في لبنان، أما السلطة فهي جناحان: جناح السلطة المعتمَدة من «المجتمع الدولي»، وجناح يسعى إلى عرقلة زحف السياسات الدولية الموكلة إلى جناح السلطة المعتمَد. ولا غرو أن العرقلة بطبيعتها رد فعل قابل دوماً للنقد والتقويم، لكن النقد الجدي المسؤول هو عمل معرفي ملموس في المشاكل والحلول وليس قذف تصورات غيبية من فوق السطوح. فالجناح المعتمَد يعمل على تنفيذ سياسات كونية تشمل الوطني الإقليمي، تحت إشراف ومراقبة «المجتمع الدولي» وهيئاته الدولية و«الدول المانحة»... وقد مهدت مراكز أبحاث الدول وشركاتها، الأرض المحروقة بتعميم ثقافة سياسية ليبرالية «حداثوية تنموية» تلتهم الأخضر واليابس. وهي سياسات منظّمة في إجراءات تشريعية وفق اتفاقيات شراكة حرة وتعاون أمني ومشاريع سلام ومفاوضات نبذ العنف... وتشمل في أولوياتها الأولى العمل الحثيث على قطع دابر خيارات المقاومة ووجودها الجسدي في السلطة وخارجها. لذا تسعى المقاومة من جانبها، وستسعى دوماً إلى مواجهة هذه الحرب الضروس في تطوير قواها الذاتية وفي بناء تحالفات سياسية داخل السلطة وخارجها، حسب حجم القوى وفعاليتها في موازين القوى الملموسة. ولا يبرّر هذا الأمر تخلّي المقاومة عن مسؤوليتها تجاه حقوق الفئات المتضررة من سياسات السلطة وحكم المحاصصة الطائفية على السواء، لا سيما أن

المحاصصة الطائفية هي شكل الحكم السياسي في لبنان، أما السلطة فهي جناحان
هذه الحقوق تساهم أيضاً في تغيير موازين القوى وفي ارتباط مصالح هذه الفئات وحقوقها في الحق بالمقاومة. غير أن هذا المسار ليس قراراً إرادياً تتّخذه المقاومة في مطبخها السياسي، بل هو نتيجة دينامية تكامل الحقوق، (تكامل المسألة الوطنية والمسألة الاجتماعية) في حراك القوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية... وهو يتعدى الحدود اللبنانية الضيقة إلى المحيط الإقليمي على الأقل، حيث الأفق الأقرب لبناء الحد الأدنى من العلاقات المتكافئة مع «المجتمع الدولي». وفي هذا المسار لا تساعد الدعوات من فوق السطوح، على إطلاق مثل هذه الدينامية (محلياً وإقليمياً)، بل تساعد على تغطية الكسل المعرفي والبطالة السياسية ببيانات إعلامية تزيد الإحباط السياسي إحباطاً لأسباب عديدة منها:
أولاً ــــ لا يستطيع أحد الادعاء بأكثر من تصورات تعوزها الجدية المعرفية الملموسة. لذا تعرب الأطراف الأكثر حماسة للبرنامج المنشود عن اهتمامها بمطالبة الأطراف الأخرى بما ليس لديها. وأغلب الظن أن تصوراتها المتداولة المنقولة من مرحلة غابرة، إن لم تكن مطلبية ونقابية وخيريّة، فهي تصورات ثقافة سياسية مسبّبة للأزمات الاقتصادية ــــ الاجتماعية، ولا ريب أنها تنهل من أقاويل الهيئات الدولية في التنمية وزيادة الإنتاجية والمنافسة في السوق الدولية وغير ذلك من هذا القبيل. ما يدفعنا إلى هذا القول إننا لم نرَ بحثاً معرفياًَ في المشاكل والحلول يمكن أن تستند إليه التصورات الجدية، ناهيك عن القوى الاجتماعية التي يُفترض أن يعبّر البرنامج عن حراكها. لا نعرف على سبيل المثال كيف يمكن حل أزمة المديونية والمسألة الزراعية والأمن الغذائي والسوق التجارية العربية والشراكة الأوروبية ــــ العربية الحرة... ولا نعرف ما إذا كانت هذه الحلول تتداخل في المحيط الإقليمي أم أن المطالبة بالخدمات العامة وزيادة الأجور والمحافظة على القطاع العام... هي المقصود بالبرنامج الاقتصادي ــــ الاجتماعي. وفي هذا الشأن هل ينبغي إعادة بناء المرافق العامة بالصلة مع القطاعات الأخرى وكيف... وفي أي حال ليس هناك بلد في عالم اليوم لديه برنامج اقتصادي ــــ اجتماعي بديل لبرنامج النيوليبرالية الكونية، يمكن استلهامه. بل هناك خروقات تقوم فيها التيارات السياسية والاجتماعية في كل بلد. وأكثر هذه الخروقات دلالة تحققت في الاندماج الإقليمي بين بلدان أميركا الجنوبية بعد تراجع النفوذ الأبيض وانشغاله في الشرق الأوسط الكبير ولم تتحقق على صعيد كل بلد بمفرده. كما لم تتحقق هذه الخروقات أينما كان بغير بدائل معرفية ملموسة مختلفة عن التصورات التي كانت شائعة قبل التحولات النيوليبرالية المعولمة.
ثانياً ــــ إن كثرة الشيء من الشيء نفسه لا تحمي من برد العزلة. فقد شهدنا قبل اليوم صياغة برنامج اقتصادي ــــ اجتماعي يوم دعت الحركة الوطنية إلى برنامجها المرحلي. لكن هذا البرنامج ظل حبراً على ورق حين شارك معظم رموز الحركة الوطنية في السلطة أكثر من عقدين كاملين. ولم تستخلص الأطراف الأخرى الدروس من هذه التجربة المرّة، عدا بعض التبريرات التي تداعب مخيالها في إمكانية العود على بدء. وفي ما يبدو أن التاريخ يعيد نفسه على شكل هزلي في المرة الثانية، على قول أحدهم، يتضح أن جناح السلطة المعتمَد لديه برنامج محلي التنفيذ كوني الصناعة النيوليبرالية في أفكاره وأدق تفاصيله. ولا يقوم برنامج محله أو إلى جانبه بتصورات عمومية أدنى منه، بل يمكن خرق هذا البرنامج بتجارب وحلول بديلة في الأرياف والأحياء الشعبية. ويمكن في الوقت نفسه تفكيك ما يمكن تفكيكه في سياسات السلطة على مستوى السياسات نفسها بين المحلي والوطني والإقليمي والعالمي. يمكن الإفادة من تجارب البدائل في إعادة تنظيم المحليات والبلديات باتجاه خلق قطاعات عمل في الزراعة العضوية والطاقة البديلة والبيئة والحرفيات والمياه والتسويق المباشر الداخلي والخارجي... يمكن توسيع الفضاء التضامني في التوأمة والتجارة المتكافئة والإنتاج المشترك... يمكن عرقلة سياسات هدر الحقوق وبناء المصالح المشتركة وتبادل المنفعة في المحيط الإقليمي بين أصحاب المصلحة أنفسهم... يمكن إطلاق دينامية مصالح مشتركة بين الفئات الاجتماعية، ويمكن إنتاج معرفة ملموسة في قراءة المشاكل والحلول. ولا ريب أن المقاومة مسؤولة عن إطلاق مثل هذه الدينامية وورشات المناهضة ضمن مسؤوليتها عن حماية المقاومة وتكامل الحقوق. وإذا غمست الأطراف الأخرى يديها في العجين، تساهم دون شك بتوسيع التشابك لكن ليس من فوق السطوح.
* كاتب لبناني