ابتلعت البطالة المستشرية بين الشباب آخر ما بقي من إنجازات النضال العمالي على مراحله التاريخية المتتالية، ليس ذلك «كلاماً كبيراً» أو تنظيراً فارغاً، أو حتى مبالغة: فاليوم، تبدأ مظاهر علاقة القوة بين صاحب العمل والموظف بالتجلي منذ... الإعلان عن فرصة العمل
رنا حايك
حتى في أرقى المؤسسات الدولية، «يرصّ» الإعلان عن فرصة العمل، التي يقضي حديثو التخرج ليالي طويلة باحثين عنها، لائحة طويلة ومعقدة من «واجبات» المتقدم للوظيفة، و«المهارات» التي عليه أن يتمتع بها، بينما تترك خانة الراتب بيضاء ناصعة أو، في أحسن الأحوال، يذكر أنها تحدد «بحسب مواصفات المتقدم». رغم أنه، للمفارقة، لم تعد صفة، ما درج على تسميته باللغة الإنكليزية “over qualified” أي الحائز مؤهلات تفوق الوظيفة المعروضة، مستخدمة بكثرة هذه الأيام. فقد فعلت البطالة فعلها، ليصبح الشاب أو الشابة تحت رحمة أي وظيفة متاحة مهما كانت، ولو أنها لا تؤمن له مدخولاً يناهز نصف ما صرفه ذووه على تعليمه في أحسن المدارس والجامعات. أصبح صاحب العمل «رب» عمل فعلياً، وأصبحت قاعدة “take it or leave it” الأميركية هي الرائجة. سلوك لا يظهر فقط بعد الحصول على الوظيفة، في أسلوب تعامل صاحب العمل مع الموظف، من حيث عدد ساعات العمل والمقابل المادي، أو أيام العطلة أو العمل الإضافي، بل يمكن تلمّسه من تفاصيل صغيرة تسبق الحصول على الوظيفة بأشواط، حيث تبدأ علاقة القوة بالاستفحال منذ نشر الإعلان عن الوظيفة. ففيما تجتهد المؤسسات الدولية أو منظمات المجتمع المدني في ذكر مواصفات العمل وظروفه، وترهق المتقدم إلى الوظيفة بلائحة طويلة من المهارات التي تتطلبها منه وبسيرة ذاتية أو اسستمارة يتطلب ملؤها ساعات، وتبحث في تفاصيل ماضي الشاب وتاريخه (غالياً ما لا تقرأ، بل يكون نشر الإعلان صورياً لمراعاة قوانين المؤسسة التي تكون قد اختارت صاحب الحظوة والسعادة مسبقاً)، تنحو المؤسسات المحلية الصغيرة منحى آخر: فهي تحدد الراتب، ولكن... من دون أن تحدد الوظيفة!
في صفحة الوظائف من جريدة الإعلانات المبوبة، بحثت الشابة كثيراً:
«فتاة أو شاب للعمل 3 ساعات ضمن الشركة»: طلعت شركة إحصاءات.
«سيدة أو آنسة لعمل يدوي حر»: طلعت نفس الشركة.
«مطلوب لشركة موظفون معاش ثابت (900$) + بنزين. السيارة والهاتف ضروريان»: طلعت شركة تكرير مياه، تطلب خبراء فحص مياه ليس بالضرورة أن يكونوا خبراء. فهنا، ممكن للشاب اليائس من إيجاد فرصة عمل، أن يرمي بكل ما تلقنه في المدرسة والجامعة عرض البحر لمزاولة مهنة خبير يُدرّب عليها لمدة 3 أيام في الشركة.
أما الحالة الأكثر «استعصاءً»، فقد كانت تلك التي لم تحدد فيها الوظيفة، حتى بعد الاتصال الهاتفي!
«عمرك بين 20 و60؟ وبدك تزيد مدخولك؟ مطلوب منك 4 ساعات من وقتك. كيف؟».
لمعرفة «كيف؟» اتصلت الصبية لتكتشف أن الوظيفة لشركة تكرير مياه، تعرض للمتقدم عملاً ضمن منطقته الجغرافية. ولكن، ما هو العمل؟ «بتشرفينا، والمدير بيحدد بعد المقابلة». ماشي، لكن الوظيفة، بهذا الشكل، ممكن أن تراوح بين عامل تنظيف ورئيس قسم في الشركة. «ما فيكي تحديديلي أكتر شوي؟».
رغم تعاون الموظفة التي ردت على الهاتف، إلا أنها عجزت عن المساعدة «سوري عنجد ما باقدر فيدك، بدك تشرفينا للمقابلة».
في الأغلب، لا يملك طالب الوظيفة، أي العاطل من العمل، رفاهية التنقل في سرفيسات أصبحت تعرفتها 2000 ليرة هباءً، أو سيارة آخر موديل تشترط عليه الوظيفة حيازتها. وفي الأغلب، لن يتقدم إليها، مهما بلغ به اليأس، إذا كان حائزاً ماجستير في السياسة أو التاريخ مثلاً. لكن سوق العمل «الميت» قد زاد من قوة صاحب العمل قوة، وقال «يا فرعون مين فرعنك». مين يا ترى؟!


محاولة بائسة والدليل «قالوله»

هنا محاولة متواضعة للبحث عن سبب عدم ذكر الوظيفة في الإعلان، لم تفض إلى شيء مع الموظفة «الأمورة»، كما يطلق على من تتميز بلطفها في لبنان. «ألو؟ مرحبا. أتصل بخصوص الإعلان عن الوظيفة. ممكن أن أستفهم ما هي؟» الأمورة: «مندوبين مبيعات، بس قديش عمرك؟».
لم تكن المتصلة تعتقد أنها قد هرمت بهذا الشكل، فالإعلان، الذي لم يذكر ما هي طبيعة الوظيفة فيما نبّه إلى أن الاتصال مسموح «للجادين فقط»(!) اشترط أن يكون المتقدم للوظيفة «فوق 24 سنة» وهي في الثلاثين.
الأمورة: «سوري، باعتذر منّك، بدنا ناس أصغر» طيب. ماشي. ولكن ماذا عن ذكر طبيعة الوظيفة؟ لماذا لم تحدد في الإعلان؟ الأمورة (بتهكم غير «أمّور»): «إيه ما تواخذينا بكرا منكتبه».
انتهت المكالمة.