لا تشبه سيرة هذا الرجل أيّة سيرة أخرى. ومع أنه ليس وحيداً بين المناضلين الذين لم يساوموا على مبادئهم، إلا أن سيرة حياته مرصوفة بقصص نضال فريدة: لأجل البيئة، حياة الأفراد، حقوق المظلومين... ثورة هادئة خاضها وحيداً. ملجأه الوحيد كتبه الكثيرة وحديقته التي حوّلها مع الأيام إلى محميّة طبيعية
ربى الحلو
بارتياح ندخل صومعة عبد الله زخيا الخاصة، بيته على ساحل عمشيت البحريّ. تجتاز إليه ممراً أخضرَ جميلاً، يجعلك تبقى في سيارتك المركونة للتو هنيهة، تستمتع فيها بصوت السكون. هنا يفوح عطر الزهور، ويخيل إليك أن الأشجار الشاهقة تحرس بيته العمشيتي القائم بمحاذاة الميناء. تبدو الصورة الأولى للزائر مشابهة لقصيدة «بيتي» للشاعر نزار قباني «في حرجنا المدروز شوحاً/ سقف منزلنا اختفى/ حرسته خمس صنوبرات/ فانزوى وتصوفا»
هنا، تخال أن العصافير تغرّد بأسلوب مختلف. هل هي طبيعة الأشجار الآتية إلى هنا من القارات الخمس لتصنع دغلاً يحمي البيت؟ لا نعرف. كل ما نعرفه أن عبد الله زخيا بدأ بزرعها منذ عام 1969. في ذلك الوقت كان المكان عبارة عن أرض صخرية غير قابلة للزرع، لكنه استطاع تحويلها إلى محمية طبيعية بأشجارها النادرة. وبرغم العروضات المالية المغرية لتحويل المكان إلى منتجع يمكن الاستفادة منه مادياً، كان جوابه الدائم «شو بدي أعمل بالمصاري؟ بالنسبة لي حديقتي، كتبي والبحر هم مصدر راحتي».
هذه الفلسفة الحياتية البسيطة، كما قربه من الطبيعة، أضافا إلى شخصية زخيا بعداً نقدياً للحياة الاستهلاكية، وبالتالي رؤية إصلاحية. هكذا، كافح منذ بداياته لحقوق الإنسان والبيئة، بثورة هادئة ذات نفس طويل برغم الشائعات التي حيكت حول شخصيته وحياته الخاصة، ومنها أنه «لا يحب الناس». قد يكون ذلك بسبب أن زخيا يترجم في أسلوب حياته ما يعتقده أنه «على الإنسان أن يكتفي بما لديه ويعيش ضمن الحدّ الأدنّى بعيداً عن الارتهان العائلي أو الطائفي».
ولد عبد الله زخيا عام 1932 في عمشيت، التحق بجامعة القديس يوسف حيث درس القانون الفرنسي واللبناني وأصبح عضواً في نقابة المحامين في بيروت في عام 1959. عمل في مكتب الأستاذ عبد الله لحود حيث كانت 20 بالمئة من الدعاوى، وخصوصاً تلك التي تتعلق بحقوق الإنسان، تقام مجاناً، بمبادرة من المكتب. ويقول «أوّل أتعاب محاماة تقاضيتها كانت زهرة «نينوفار» أحضرها لي أحد العمال فزرعتها في حديقتي».
ويروي عن بداياته «في بداية حياتي الجامعية في الخمسينيات كان العالم مقسوماً إلى معسكرين، يساري ويميني. كنت يساري الميل دون الحاجة إلى الانتظام في أيّ حزب». ويتابع «بالإضافة إلى هذا كنت جدّ منزعج من وضع المرأة في عالمنا الذي لطالما شبهته بالطبيعة الميتة، قوانين البلاد جعلت منها كائناً ناقصاً، هذا الواقع بالإضافة إلى هموم أخرى دفعني للسفر إلى فرنسا في عام 1969 هناك تعرفت على فتاة فرنسية وانتقلنا للعيش في كوبا حيث تزوجنا مدنياً». هكذا أصبح عبد الله من رواد الزواج المدني لبنانياً، وهكذا فعل ولداه نديم/كليمان، وإلسا. بالنسبة له «كانت كوبا أقرب مكان لليسار الحقيقي والمساواة بين الناس»، فمكث المحامي اللبناني فيها شهرين يعمل في زراعة البن وصناعة الخشب لكنه ما لبث أن عاد إلى لبنان.
أوّل أتعاب تقاضيتها كانت زهرة «نينوفار» زرعتها في حديقتي

عندما تحولت بلدته الساحلية إلى مدينتين صناعيتين، قام بنضال بيئي أثمر قوانين صارمة
إثر العودة لاحظ أن بلدته الساحلية التي تصلح مصيفاً لجمالها، تحولت «إلى مدينتين صناعيتين». ما دفعه إلى نضال بيئي أثمر قوانين صارمة، منعت الكثير من الكوارث الطبيعية، عبر محاربة المتاهات الإسمنتية والمصانع السامّة التي نمت بسرعة هائلة في لبنان.
عبد الله زخيا رجل لا تهمه المظاهر، لم يرتد بدلة رسمية أو ربطة عنق في حياته ويرفض ذلك حتّى عند إلقائه المحاضرات. وهو من أهم المدافعين عن حقوق المرأة في لبنان ويرى أن القوانين اللبنانية للأحوال الشخصية كما العقوبات مجحفة بحقّها، فطالب بإصلاح الخلل موصياً بقانون مدني للزواج يؤمّن حريّة المعتقد لكلّ مواطن.
مع وقوع الحرب الأهلية، وبمرور الوقت، قامت في البلاد قوى الأمر الواقع، فازداد وضع البلد هشاشةً ولم يعد المواطن يثق بالدولة أو بالشكوى إليها، فكثرت المخالفات، كما اليوم، على أنواعها. يقول «خلال الحرب والفوضى حصلت تعديات مختلفة على البيئة، فشرعت مع صديقي الباحث البيئي الراحل ريكاردوس الهبر بدعم من الاتحاد الأوروبي في التخطيط لمشروع تحويل الغابات إلى محميات يمنع فيها قطع الأشجار والصيد، وكانت المطالبة بتحويل حرج إهدن وجزر النخيل إلى محميات طبيعية».
لم يعتمد زخيا طوال حياته سوى على نفسه، خصم شرس للتكاذب واستغلال النفوذ السياسي: «ناضلت لوضع نهر إبراهيم على لائحة التراث العالمي، فكانت حرباً بيني وبين أصحاب الكسّارات والمقالع المستفيدين، حتّى أقرّ مجلس الوزراء مشروعاً لتنظيم أعمال المقالع والكسارات. برغم القانون بقيت بعض المخالفات، والسبب؟ التحالف «المقدسّ بين رجال السياسة وبعض المواطنين» يقول ساخراً، ويضيف «نشرت سلسلة مقالات عن المنطقة محدداً أنها انتقلت من عصر معابد الحبّ إلى عصر حفاري القبور». يخبر زخيا أن أحد أصحاب المقالع اتصل به في اليوم التالي واعداً بأنه سيوقف العمل شرط أن يوقف تهجمه عليه في الصحف والمجلات، ويقول «حسب ما علمت انزعج أولاده من مقالاتي، وخصوصاً بين زملائهم في الجامعة الذين بدأوا ينادونهم بأولاد حفار القبور». وفي حادثة أخرى يقول «اتصلت بي إحدى محطات التلفزيون لتصوير أحد المقالع غير الشرعية في حصرايل، لم يتجاوب أحد من أهالي الضيعة بالرغم من الأضرار التي حصلت في معظم المنازل من جرّاء التفجير، فقررت أن نذهب مباشرةً إلى موقع المقلع في الوادي. وتفاجأنا بوجود صورة عملاقة لرئيس الجمهورية السابق على المدخل، فاكتفى الصحافيون بتصويرها. لدى عودتي إلى المنزل اتصلت مباشرةً بالقصر الجمهوري وشرحت لهم ما حدث وكان الردّ: نرجو ألا يبث التقرير وسنعمل على حلّ المشكلة بسرعة، وبالفعل لم تمر ساعتان حتّى أُغلق المقلع».
قد تكون الجنّة هي المكان الأجمل في خيال البعض، وللبعض الآخر هي مكان يختزل جمال أمكنة العالم كلها. عبد الله زخيا وجد جنّته الخاصة. قد لا يمتلك عصا سحرية، ولا يستطيع أن يجعل النجوم تتطاير في أرجاء المنطقة، لكنه إنسان حرّ وهذا شرط أساسي للعامل في الشأن العام، ربما بسبب ذلك يكاد الأستاذ عبد االله زخيا أن يصبح معادلاً الوجه الآخر للبلد.


نعمة الطرش!

يتذكر عبد الله زخيا كلام أستاذه عبد الله لحود المتعلق بميزات خفّة السمع التي حجبت عنه التلوث الفكري. يقول «أحياناً يصبح الطرش نعمة». هكذا يجب إعلان حالة طوارئ عقلية واتخاذ أقصى تدابير الوقاية لحماية عقول الكثيرين من مفاعيل التلوث». ويكمل قائلاً، «هذا ضروري مع دخول الطبقة السياسية في لبنان الحرب الكلامية».