فرغت الأسرّة الثلاثة في قسم العناية الفائقة بمستشفى حيفا في مخيم برج البراجنة من المرضى. لم يكن السبب استعاضتهم عن مستشفاهم المتواضع بمستشفيات النجوم الخمس، بل بسبب انقطاع التيار المتكرر لأسباب تتعدّى التقنين «الرسمي» إلى مبالغة «جيران الرضى» بالتعليق على أسلاك مولّداتها البديلة، التي تعطّلت هي الأخرى تاركةً المستشفى رهينة ضمير الجيران
محمد محسن
يصعد أحد الإداريين المناوبين في مستشفى حيفا بمخيم برج البراجنة إلى سطح المستشفى، مع أحد موظفي صيانة الكهرباء. لهؤلاء مهنة «مضافة» حديثاً إلى مهمّاتهم الأصلية: إزالة أسلاك الجيران المعلّقة على خطوط مولدّات المستشفى. وفي ما يشبه لعبة القط والفأر، تدور مناوشات «كهربائية» بين موظفي المستشفى، وجيران الرضى، الذين ينتظرون لحظة غياب المراقبة، ليعلّقوا أسلاكهم مستفيدين من كهرباء المستشفى، وميزتها أنها متوافرة 24 على 24، إضافةً إلى «مجانيتها».
ويحتاج الموظفون إلى خبرة مضاعفة في تمييز أسلاك السرقة، التي سرّع نموّها، تفنّن اللصوص في تمويه سرقاتهم الخطرة، عبر استعمال أسلاك هاتف ثابت تارة، وأسلاك صحون لاقطة تارة أخرى. وما يزيد الطين بلّة، خط معلّق بعرض ثمانية ميللمترات «يغذي حارة بأكملها»، استطاع التقنيون إزالته لكن الخوف من إعادة تعليقه مموّهاً، قائم. هكذا، أنهكت السرقة مولدات المستشفى فتعطّلت، لا بل إن بعضها انفجر حسب شهود عيان. هذه «المهنة الجديدة» لموظفي المستشفى، فرضها مشهد مرعب لغرفة العناية الفائقة، اليتيمة، ذات الأسرّة الثلاثة. هكذا، انطفأت أضواؤها، وتداخل عمل أجهزتها، لدرجةٍ أصبحت معها الغرفة، تحتاج هي إلى عناية فائقة قبل مرضاها. كذلك فإنّ غياب التغذية الكهربائية المنتظمة، يؤدي في حالة آلات المختبر مثلاً، إلى نتائج غير موثوق بها، ستدفع بالمرضى الرقيقي الحال إلى مستشفيات بعيدة لإعادة إجراء فحوصهم من جديد. زد على ذلك، حدث لم يكن بالإمكان تداركه، حصل في برّادات حفظ جثث الموتى. ففي 15 آب المنصرم، تعطّلت مولّدات المستشفى جميعها، ما حوّل براد المستشفى إلى مكان ..دافئ، غير مناسب بالتالي للغرض منه: حفظ الجثث. هكذا، تحلّلت جثتّان كانتا داخل هذه البرادات في انتظار مجيء ذويهما من الخارج، ما حال دون غسلهما كما يفرض الشرع، فدفنتا على عجل. حينذاك بلغت الأزمة ذروتها. فما كان من مسؤولي المستشفى إلا الإيعاز إلى موظفيهم بالإضراب وإغلاق أبواب المستشفى وعدم استقبال المرضى باستثناء أصحاب الحالات الطارئة جداً، حيث بقي مولّد صغير ومتنقّل، سالماً من «التعليق» ليرفد قسم الطوارئ بحاجاته الكهربائية. حديث يردّده موظفو المستشفى حين تسألهم عن أزمة الكهرباء فيه، ورد أيضاً في التقرير الذي أعدّته مؤسسة «شاهد» لحقوق الإنسان وأطلقته أمس، عن «تدهور الأوضاع الصحية في مستشفيات الهلال الأحمر الفلسطيني، مستشفى حيفا في مخيم برج البراجنة مثالاً».
أصبح مشهد غرفة العناية الفائقة مرعباً وبحاجة هو إلى عناية فائقة
في التقرير شهادات وآراء لمطّلعين على المشكلة، كمدير المستشفى الدكتور عوني سعد، وأمين سر اللجنة الشعبية في مخيم برج البراجنة أبو وليد العينين، وآخرين. هكذا، يتحدّث د. سعد عن أسباب الأزمة، فيشير إلى «انقطاع الكهرباء العامة عن المخيم أياماً عدّة، ونتيجة لهذا الوضع، قام العديد من الأهالي المحيطين بالمستشفى، وبعض القوى النافذة من فصائل فلسطينية وغيرها بالتعدي على مولّدات الكهرباء الخاصة بالمستشفى». وعن شكل التعدّي، يفصّل د. سعد الأساليب المعتمدة «من خلال «تزليط» بعض أسلاك المكيفات والمصعد والأجهزة الأخرى، والسرقة منها بكمياتٍ كبيرة تفوق طاقة احتمال المولدات». بعد إضراب المستشفى عن العمل، يشير سعد إلى أن الفصائل والقوى شعرت بالحرج «فأزالت التعدّيات وأعادت الوضع إلى طبيعته، بعدما دفع المستشفى مبالغ طائلة لصيانة المولّدات المعطّلة وإصلاحها». كذلك، يورد التقرير رأي اللجنة الشعبية في مخيم برج البراجنة في ما يحصل. فيرمي أمين سرها وليد أبو العينين الكرة في ملعب المستشفى، مؤكداً أن سبب المشكلة هو «تواطؤ بعض العاملين في المستشفى مع بعض الأشخاص النافذين، حيث يجري تزويدهم بالكهرباء». ويشير أبو العينين إلى أن هذه الظاهرة «شجّعت الجيران والآخرين، على التجرؤ والتعدي عنوة على شبكة الكهرباء».
في المستشفى، يؤكد مسؤول إداري، أنّ وعود الفصائل واللجان داخل المخيم، بالعمل على إزالة التعدّيات لم تترجم عملياً حتى الآن. ويشير المسؤول إلى أنّ «جولةً واحدة من نزع التعديات لا تكفي، وخصوصاً أنها تتكاثر يومياً». وعمّا يدور عن تواطؤ من داخل المستشفى، يرفض المسؤول تأكيد هذا الحديث أو... نفيه، لافتاً إلى أن «سُرّاق الكهرباء من المستشفى ليسوا جميعاً فقراء، بل إن بعضهم من الميسورين». لكن مصدراً أمنياً داخل المخيّم، أكّد الحديث عن التواطؤ من داخل المستشفى «البعض فاتح ع حسابو جوّا»، مشيراً إلى أنّ خطوطاً كثيرة أزيلت، لكن أعيد تعليقها من جديد. وعن المستشفى عموماً، يؤكد المصدر الأمني أنّه «من التزام الفصائل»، واعداً بالعمل على إزالة جميع التعديات على مولداته، وفضح الفاعل لأي جهة انتمى.
من جانبه، لا يهتم أحد «المستفيدين» (بالطبع رفض الكشف عن اسمه) من مولّدات المستشفى بوعود الفصائل، أو شكاوى المستشفى، على قاعدة أنّه «الكل بيسرق كهربا، وما حدا بريء». هو كغيره من سكان المخيم، يعاني انقطاعاً دائماً للكهرباء عن بيته، وبالتالي مستشفى أو غيرو «نحن محرومون من التيار ولا نقصد إيذاء المستشفى، وكما تعلم فالغريق يتعلّق بقشّة»، ولذلك فهو لا يزال.. معلقاً.