محمد أحمد المخلافي *في هذه الأيام، يشبه الحديث عن أوضاع اليمن الضغط على عصب مكشوف وملتهب. لكن هذا الألم الشديد لم يهدِ السلطة في اليمن إلى البحث عن علاج للمرض، لكن المراوحة بين خيار عقاقير التسكين أو المزيد من الضغط باستخدام القوة حتى نفادها والعجز الكامل عن إيجاد حلول. قبل أشهر، كان التحذير من أن الحراك السلمي في الجنوب لن يظل سلمياً إذا لم تجد القضية الجنوبية حلاً مرضياً لأغلبية سكان الجنوب. غير أن السلطة استمرت بغطرسة العاجز بالاعتماد على القوة والقمع، الأمر الذي ترتب عليه ليس بروز الدعوة للانفصال فحسب، بل ميلاد الحراك المسلح في الجنوب يوم 23 تموز / يوليو 2009. إذ شهدت مدينة زنجبار في محافظة أبين مصادمات مسلحة بين القوات الحكومية وميليشيات طارق الفضلي، أحد القادة الميدانيين لـ«القاعدة»، وكان حليفاً أساسياً للسلطة في الجنوب وشريكها في حرب 1994. ونتج من تلك المواجهات قتل21 مواطناً وإصابة 400 آخرين.
وقبل أشهر، جرى التحذير من اندلاع حرب سادسة في محافظتي صعده وعمران، بين السلطة والتنظيمات السلفية من ناحية، والحوثيين من ناحية أخرى. لكن السلطة ظلت في المسار الخطأ، الأمر الذي ترتب عليه اندلاع حرب سادسة في شهر آب / أغسطس، هي أكثر عنفاً واتساعاً وشدة من سابقاتها. ونجم عن ذلك نزوح ما يقرب من مئة وخمسين ألفاً من السكان وهيامهم في الشعاب والجبال وتقطع السبل بهم وقتل وجرح المئات.
ويستمر انسداد الأفق السياسي، إذ يرزح في السجون 67 معتقلاً سياسياً من قادة الحراك الجنوبي، كما أن الحوار بين أحزاب «اللقاء المشترك» والسلطة متوقف، وتظهر الرسائل المتبادلة أخيراً بين حزب الحكومة ــــ المؤتمر الشعبي العام ــــ وأحزاب «اللقاء المشترك» تمسّك «اللقاء» باقتراح تأليف لجنتين فرعيتين للتمهيد للحوار، والبدء في البحث في تنقية الأجواء السياسية.
ويشمل ذلك إطلاق كل المعتقلين السياسيين، ووقف الحملات والملاحقات للصحف، ووقف الحرب، وإنهاء إجراءات تقليص الهامش الديموقراطي وافتعال الأزمات، على أن تناط هذه المهمات باللجنة الأولى، بينما يناط باللجنة الثانية وضع آلية لإشراك القوى السياسية والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني في الحوار، ويشمل ذلك الحوثيين وقادة الحراك في الجنوب والمعارضة في الخارج. أما أولوية الحوار من وجهة نظر المعارضة، فتتعلق بوضع الحلول للقضية الجنوبية وحرب صعدة والتوافق على التعديلات الدستورية اللازمة لتطوير النظام السياسي والنظام الانتخابي.
غير أن حزب الحكومة لا يقبل إلا بمناقشة التعديلات الدستورية لتطوير النظام السياسي والنظام الانتخابي، ويهدد بالتخلي عن الاتفاق المبرم في شباط / فبراير 2009، والذي جرى بموجبه تأجيل الانتخابات النيابية والتمديد لمجلس النواب لمدة عامين، والعودة إلى المؤسسات الدستورية. لكن هذا التهديد يضع السلطة أمام خطر فقدان كل شرعية، إذ يرى «اللقاء المشترك» في المقابل أنه لم يعد ثمة من شرعية بعد هذا الاتفاق والتمديد لمجلس النواب، غير الشرعية المستمدة من التوافق الذي بني عليه الاتفاق، والنتيجة أن الخروج على هذا الاتفاق يسقط شرعية السلطة. ولعل إدراك فقدان الشرعية قد ترتب عليه أمران:
الأول: إنّ تطورات الأوضاع في اليمن خلال الأيام القليلة الماضية قد جعلت شركاء فعليين في السلطة، ومن أقارب الرئيس، يعلنون أن المسؤولية عما آلت إليه الأمور تنحصر فحسب بالرئيس علي عبد الله صالح وابنه وأولاد أخيه الذين يرثون الحكم، ودعوة هؤلاء إلى مغادرة السلطة.

لا بد من اتحاد فدرالي أو تحقيق لامركزية الحكم من خلال إقامة حكم محلي كامل الصلاحيات

الثاني: الإقدام على مغامرة خوض الحرب السادسة في صعدة، بعد جرّ جزء من الحراك الجنوبي إلى المواجهات المسلحة، هي محاولة للاستعاضة عن الشرعية الشعبية بشرعية القوة والغلبة، ومن ثم، ضرب الحراك الجنوبي وفرض الأمر الواقع على أحزاب اللقاء المشترك. والنتيجة المزيد من ضعف السلطة وعجزها عن إدارة البلاد.
ومن هذه التطورات يتبين أن ثمة مستويين للصراع في اليمن:
المستوى الأول: تمثله قوى مسلحة متصارعة، لكنّ لديها قاسماً مشتركاً، وهو السعي لتحقيق مشاريع عائلية أو سلالية لاحتكار السلطة والثروة في كل اليمن أو أجزاء منها، ومن ثم، ليس لديها هم وطني وترفض الانخراط في مشروع إنقاذ وطني. وهذا الصراع يقع في إطار يهدّد وجود الدولة ووحدة التراب الوطني وسلامة أراضيه. ويمثل هذا المستوى القائمون على السلطة والحوثيون والحراك المسلح في الجنوب.
المستوى الثاني: تمثله قوى سياسية تخوض الصراع من أجل التغيير في إطار لا يهدد الكيان الوطني، بل في إطار تداول السلطة سلمياً. وهذه القوى تتمثل بدرجة أساسية بأحزاب اللقاء المشترك وتحالفاتها من خلال اللجنة التحضيرية للحوار والحراك الجنوبي السلمي.
في ظل التطورات الخطيرة التي تضع اليمن اليوم أمام مخاطر الانزلاق إلى المجهول، شهد شهر آب / أغسطس تطوراً إيجابياً يبعث على الأمل، إذ أقرت اللجنة التحضيرية للحوار الوطني (وتضم إلى جانب أحزاب اللقاء المشترك وحزب التجمع الوحدوي ممثلين عن مختلف شرائح المجتمع ومؤسساته) وثيقة «رؤية للإنقاذ الوطني»، سوف تُعلن في مؤتمر صحافي خلال أيام. تقوم هذه الرؤية على ثابت أساس، هو ضرورة التغيير وحق التغيير للمواطنين، وتشمل الحلول والمعالجات الآتية:
وقف الانهيار: وترى الوثيقة أن وقف الانهيار يتطلب إنهاء الإجراءات المعطلة للحقوق والحريات، وإزالة آثار حرب 1994، وإجراء مصالحة وطنية شاملة، ومعالجة آثار الحروب والصراعات السياسية السابقة لحرب 1994، وحل القضية الجنوبية وحرب صعدة وآثارها. وحددت الوثيقة في هذا الإطار، تفاصيل المعالجات الإنقاذية العاجلة:
بناء الدولة الوطنية الحديثة. وفي هذا الإطار طرحت الوثيقة رؤية لبناء دولة القانون وتغيير شكل الدولة ومضمونها.
وعلى الرغم من أن هذه الرؤية تصدر عن تجمع يمثل قوى مختلفة، إلا أنها أقدمت على خطوة جريئة نحو التغيير وتتمثل باقتراح إحداث تغيير جوهري على شكل الدولة يتبنى لامركزية الحكم من خلال خيارين أساسيين مطروحين للحوار هما: إقامة اتحاد فدرالي يتكون من 2 إلى 5 أقاليم، أو تحقيق لامركزية الحكم من خلال إقامة حكم محلي كامل الصلاحيات يتكون من 3 إلى 5 أقاليم. ومن حيث تغيير مضمون الدولة، تقترح الوثيقة تغيير النظام السياسي لوضع أسس للفصل بين السلطات والأخذ بشكل نظام الحكم البرلماني وتكوين السلطة التشريعية على أساس نظام المجلسين، والأخذ بنظام التمثيل النسبي في الانتخابات النيابية والمحلية. لم تتجاهل الرؤية الأزمة الاقتصادية، بل اقترحت بشأنها الحلول إلى جانب الحلول المقترحة بشأن الأزمة السياسية. لكنها وضعت حل الأزمة السياسية وتغيير شكل الدولة ومضمونها أساساً للخروج من الأزمة التي تهدّد اليمن بخطر الانزلاق إلى حرب شاملة وانهيار الدولة.
سوف تطرح هذه الرؤية للحوار على المجتمع وأطراف الأزمة دونما استثناء. وتدعو الوثيقة السلطة والحوثيين وقادة الحراك في الجنوب والقيادات السياسية في الخارج إلى الحوار بشأن الرؤية. وهنا يبرز السؤال عما إذا ما ظل أطراف الصراع المسلح، السلطة والحوثيون والحراك الجنوبي المسلح، يرفضون الحوار والانخراط في مشروع الإنقاذ الوطني، فمن يكون الشريك الآخر في هذا الحوار؟ وهل يمكن التغيير سلمياً بدون مشاركة هذه القوى؟ هذا هو السؤال الذي سيظل يبحث عن إجابة. ونأمل أن تأتي الأيام المقبلة بالإجابة عنه قبل فوات الأوان.
* محامٍ وقيادي في تحالف «اللقاء المشترك» اليمني