تختلف وجهات النظر في ملف إعادة إعمار مخيم نهر البارد. يدافع البعض عما قامت به الحكومة اللبنانية، وينتقد البعض الآخر التشريعات اللبنانية التي تقف عائقاً أمام عملية إعادة إعمار المخيم. هكذا، دار أول من أمس نقاش مهم بين من دعا «لعقلنة التشريعات وعدم التخويف من الفلسطيني»، ومن رفض «فلسفة القوانين» التزاماً بتسويات واقعية. لكن، برغم حماوة النقاش، لا يزال إعمار المخيم ..بارداً
قاسم س. قاسم
«كنت أتمنى سماع كلام موضوعي. لا أعرف لماذا هذه المقاربة الفلسفية، ولماذا الاستشهاد بميشال فوكو في مقاربة وضع الفلسطينيين في مخيم نهر البارد (...). الأمور مش بسيطة، خلّينا ما نقدمها كأنها «سوب أوبرا» ( مسلسل تراجيدي سطحي)». هكذا علّقت جومانة ناصر، ممثّلة لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني على مداخلة المحامي نزار صاغية، خلال ندوة «التقييم القانوني لملكية المساكن، الأراضي والعقارات، الحقوق، انتقال الملكية، قانون الملكية المتعلق باللاجئين الفلسطينيين في لبنان ومخيم نهر البارد»، التي كان محاضرها الثاني المهندس إسماعيل الشيخ حسن، جامعة في انتقادها بين متناقضين :اعتراضها على «فلسفة» المشكلة، وفي الوقت نفسه على سطحية مقاربتها!
ردّ الفعل هذا، الذي استهجنته قاعة كان أغلب حضورها من متابعي ملف إعادة إعمار مخيم نهر البارد، بدا خارج السياق، وخصوصاً أنّ الورقة النقدية التي تقدم بها صاغية بشأن تشريعات أوضاع الفلسطينيين في لبنان طالبت بعقلنة التشريع وعدم الارتكاز فيه على الخوف. أما الشيخ حسن، فقد روى وقائع ميدانية أكدت بطريقة أو بأخرى وجهة نظر صاغية.
وكانت الندوة التي عقدت أول من أمس في قاعة عصام فارس في الجامعة الأميركية، بدعوة من معهد عصام فارس للدراسات والمجلس النروجي للاجئين، قد بدأت هادئة بعد مشكلة في الترجمة دفعت ببضعة أجانب للجلوس في غرفة الترجمة لسماعها مباشرة، بعد أن تعذر وصلها بالقاعة. وقدّمت منى فواز المحاضرين لتعطي الكلمة للباحث القانوني صاغية الذي انتقد «تحويل الفلسطيني إلى شخص خطر» عبر تشريعات تعزله وتطوّقه عن طريق منعه من العمل والتملّك والإرث، وحتى من الاندماج مع محيطه، مميّزاً بين العوامل السياسية المضمرة خلف تلك التشريعات وتضاربها مع حقوق الإنسان والاتفاقيات الدولية المناهضة للعنصرية التي وقّع عليها لبنان، مستشهداً بالمفكر الفرنسي ميشال فوكو في كتابه «الحضارة والجنون»، حيث «يعمل القوي على عزل الضعيف». ثم تلاه المهندس الشيخ حسن الذي عرض لإشكاليات تحدث يومياً ناتجة من التشريعات اللبنانية بما يختص بالملف الفلسطيني في مخيم البارد، منتقداً أسلوب التعامل الرسمي مع إعادة الإعمار لجهة تضمينه بعداً أمنياً.
النقاش الذي بدأ بعد المحاضرة بسؤال عن دور السلطة الفلسطينية كمرجع يمنع الدولة اللبنانية من اعتبار الفلسطيني من دون دولة ما يستتبع «معاملته بالمثل»، أي ألا تكون له أية حقوق ما دام فعلياً لا وجود لدولته، سرعان ما ارتفعت حدّته بإصرار ناصر على المحاججة من دون انتظار دورها، ما أدى إلى استياء بعض الحضور مما اعتبروه «استيلاءً على النقاش للدفاع عن سياسة الحكومة اللبنانية».
واحتوى صاغية التوتر بدعوته لمناقشة ما أدلت به ناصر بهدوء، داعياً إلى تحليل «القوانين العنصرية» التي «يجب عقلنتها» بعيداً عن الخوف، متمنياً رفع دعاوى قضائية «ربطاً بالاتفاقات الدولية» لنقض هذه التشريعات المجحفة. كذلك شرح كيف قضى البند الذي أضافته الحكومة عام 2001 على قانون تملّك الأجانب، على حق الفلسطينيين في التملّك والإرث، بمنعها تملّك من «لا يحملون جنسية صادرة عن دولة معترف بها»، انطلاقاً من «مبدأ المعاملة بالمثل»، معتبراً أن «هذا التعديل لا يسمي الفلسطينيين بالاسم، لكنه يطال أكثر الفئات تهميشاً، ومنها مكتومو القيد والفلسطينيون». كذلك اعتبر مبدأ «المعاملة بالمثل» الذي يحرم الفلسطينيين من حقوقهم المدنية «عقوبة جماعية ضد كل من لا يحمل جنسية». وشرح صاغية المعوقات القانونية لإعادة بناء مخيم البارد، الذي كان خارج تطبيق القوانين ومتروكاً لأعراف اجتماعية، ثم أصبح فجأة مع دخول الجيش تحت مظلة القانون، ما سبّب إرباكاً بنيوياً للفلسطينيين الذين وجدوا أنفسهم مضطرين إلى اعتماد الأساليب القانونية لإثبات ملكية يعلم الجميع أنها لهم لكنها غير مسجلة حسب الأصول في الدوائر العقارية.
ثم تحدث الشيخ حسن عن تجربته كمشارك في وضع المخطط التوجيهي لإعادة إعمار البارد، متطرقاً إلى بعض التجاوزات «اللبنانية» بسبب عجز الفلسطينيين عن تسجيل ملكيات دفعوا ثمنها، وحصولهم فقط على أوراق من كاتب العدل، احترق معظمها خلال حرب البارد، وحين طالب أصحابها الفلسطينيون الملّاك السابقين بنسخة، طولبوا بمبلغ «ألف دولار مقابل النسخة»! ثم تطرق إلى تضمين لجنة إعادة الإعمار شخصاً عسكرياً أوحى بالمنحى الأمني الذي اتخذه ملف المخيم، و«كان علينا كل الوقت إقناعه بالمخطط». تقاطعه ناصر مطالبةً بتوضيح ما حصل للمخطط الرئيسي للمخيم. عاد الشيخ حسن ليؤكد مجدداً أن «كلمة الفصل كانت للجيش اللبناني في المخطط التوجيهي». ارتفعت حماوة النقاش مجدداً. دار الميكرفون على الحضور، انضمّ بعض الناشطين إلى النقاش ليسألوا عن طبيعة القوانين العنصرية، وطرق العمل على نقضها. وهل إذا اعتُرف بدولة فلسطينية فسيلغى مبدأ المعاملة بالمثل؟ ردّ صاغية قائلاً إن «الدستور اللبناني الذي يرفض التوطين، يبقى سبباً لمنع الفلسطينيين من التملّك»، وإن دراسته هدفها «أن يكون الجانب الحقوقي ضابطاً للغرائز السياسية»، متمنياً اعتماد مبدأ التناسب القانوني، (تناسب صوابية تشريع ما مع الضرر الذي يمكن أن يلحقه)، وبضع توصيات لحل أزمة العقارات في البارد، كالموافقة على اقتراح اللجنة الاستشارية في وزارة العدل القاضي بالسماح للبلديات بالإعمار في أملاك أصحابها غير معروفين.