إيمان الجابرنبدأ معه من التمرّد. إنّه إنسان متمرّد... هكذا يحدّد نفسه الفنّان السوري الذي تضاعفت شهرته مع «باب الحارة». عباس النوري في حالة تصادم دائم مع الحياة: «أردت أن أكون حرّاً وكل ما حولي كان يمنعني من التعبير عن ذاتي... خوفي الشديد جعلني متمرّداً». الممثل الشامي ابن حارة «الجورة» في حي القيمرية، هو الولد الخامس في عائلة من عشرة أولاد، ترعرع في كنف أب قاسٍ عمل في إحدى ورش السيارات، وأم ذات أصول تركية تخفي شخصية قوية وحكيمة رغم أميَّتها. «والدي كان عبارة عن صوت يثير الرعب عندما نسمعه في البيت. صغيراً، كنت أدعي الصوم خوفاً منه ومن المحيط الاجتماعي، لكنني كنت على يقين بأن الله يحبني ولن يعاقبني على كذبي».
ذات مرّة، اتفق عبّاس مع أبو العز مؤجِّر الدرَّاجات على استعارة درّاجة لربع ساعة شرط ألّا يخرج من الحارة. لكنّ الطفل تجاوز الوقت واصطحب معه صديقه في رحلة مجانيّة إلى رحاب الشام، ليجد نفسه في حي النجمة وسط دمشق. هنا فوجئ بدبابات وجنود وشعارات مكتوب عليها «البعث»، وبالرصاص ينطلق من كل حدب وصوب. يومها، اعتقلته الشرطة المدنية هو ورفيقه لساعات: «ضربونا وأخذوا البسكليت...». كان ذلك الانقلاب على أمين الحافظ أو حركة 23 شباط (فبراير) 1966. في نهاية ذلك اليوم العصيب والدامي، ضُرب ثانيةً، لكن من والده هذه المرّة. «الخروج من الحارة كان يشبه الخروج إلى العالم»، يقول. «تعرّفت يومها إلى أحد أوجه الوطن. كان وجهاً مرعباً. سكنني ذلك الخوف، ولاحقني حتّى أيّام الجامعة، كأنّ شيئاً في روحي قد اعتُقل».
أحد أجمل وجوه الوطن في خياله المراهق كان صورة الفدائيّين، لهذا، التحق بـ«منظمة التحرير الفلسطينية»، وأصبح اسمه الحركي «وليد». ولم يكن حينها ليتخيل أنّه سيمثّل ذات يوم دور «أبو جندل» القائد الفلسطيني في مسلسل «الاجتياح» لشوقي الماجري، ويعبّر في أدائه عن مرحلة مخزّنة في وجدانه وذاكرته. «لم أكن أدرك أن ما أقوم به هو عمل سياسي، بل كنت مدفوعاً بعاطفة جياشة وبإعجاب شديد بالفدائيّين». وبما يشبه البوح، يهمس: «تنتابني مشاعر الغيرة من الفتى الذي كنته. كم كنت منسجماً مع نفسي. كانت هناك براءة في التوجّه، وكانت خياراتنا محكومة بالصدق والعفوية. لو استُشهدت حينها، لكنت شهيداً حقيقياً». لكنّه لم يُستشهد، بل سُجن وعوقب على خياره. منذ ذلك الحين، بدأت القضايا تتّضح أمامه تدريجاً، وخصوصاً بعد دخوله الجامعة لدراسة التاريخ. هناك تعرَّف إلى مختلف التيارات الفكرية والسياسية وإلى كامل تجلّيات المشهد السياسي العربي. بسخرية مُرَّة، يقول: «اكتشفت أنَّ كلَّ النضالات تنتهي ويُحسم أمرها مع أول كأس عرق في جلسة مسائية. اكتشفت أنَّ القضية تنتهي بقصيدة أو قصة أو مشاهدة فيلم، وكفى الله الأحزاب شرّ القتال». واكتشف أيضاً أنّ كل حركات التحرر العربي رافقتها شعارات كثيرة «ومع كل شعار مئة دورية استخبارات»، فأصبحت غايتها كما يقول «اعتقال أرواحنا وعقولنا ووطنيّتنا».
ألّا ينخرط صاحب شخصيّة متمرّدة في حزب ما أمر طبيعي. «قد أقبل أن يكون الفنان في حزب معارض، لكن أن يكون الفنان في حزب حاكم، فهذا ما لا أفهمه. كيف يكون فناناً من دون عقل حرّ، متفلّتاً من كل القوالب الجاهزة للتفكير والتعبير».
أُغرم الشاب المشاكس بالفنّ رغم رفض الأهل لهذا الخيار. لذا وجد ذاته في «المسرح الجامعي» الذي تجاوز في السبعينيات ما كان يقدمه «المسرح القومي» حينذاك. «أحد أهم الأسباب في هذا النجاح هم الأساتذة المختصّون والأكاديميون الذين أشرفوا علينا وقدّموا إلينا خبراتهم، مثل فواز الساجر ونائلة الأطرش وحسن عويتي. أَدّينا العديد من المسرحيات العالمية، ووجدنا أنفسنا أمام مسؤوليات ثقافية حقيقية، دفعتنا إلى القراءة والاطّلاع على كلّ ما يتعلق بالمسرح». وقد خرّج ذلك المسرح الجامعي نجوماً كبسام كوسا وسلّوم حداد ورشيد عساف وغيرهم.
خلال الدراسة عمل عباس النوري في «مؤسسة النوتات الجامعية»، ليحقق استقلالاً مادياً عن والده. يقول ضاحكاً: «كان ضرورياً أن أشتري دخاني من عرق جبيني». لاحقاً، عمل مدرساً لمادة الاجتماعيات، لكنّ حضور المخرج سليم صبري لأحد عروض المسرح الجامعي غيّر الحكاية. بعد انتهاء العرض، أشار إليه بإصبعه، قائلاً له: اقترب. «حركة إصبع سليم صبري غيّرت حياتي، جعلتني نجماً تلفزيونياً». عرض عليه صبري بطولة خماسية تلفزيونية بعنوان «سمر»، وتوالت بعدها الأعمال والبطولات. أدّى أدوار الفتى الأول والعاشق، لكنّ تكرار هذه الأدوار جعله يتوقف مع ذاته ويقرّر الانحياز إلى المثل في داخله. بدأ يبحث في الأدوار الأخرى عمَّا يعبِّر عن إمكاناته الحقيقيّة. «نجوميتي المبكرة كادت تحرق موهبتي كممثل، وأدوار الفتى الأول لم تعد تعنيني. أعتبرُ مسلسل «أبو كامل» للمخرج علاء الدين كوكش نقطة تحول في حياتي المهنية. إذ اخترت دوراً رابعاً في العمل، وهو دور مسلّم عامل النول الفقير والشهم والحرامي والقبضاي. كانت شخصيّة إنسان حقيقي غير معقّم ولا ملمّع». كثيراً ما أغرته هذه الشخصيات الإنسانية بتكويناتها المختلفة. لكن أدوار البيئة الشعبية أعادت إليه نجوميته التي تخلّى عنها. اعتبره نقاد كثيرون نجم المسلسلات الشامية بلا منازع. «لأنها بيئتي التي تربّيت فيها وأعرفها جيداً»، يعلّق النوري. ولأنه يعرف البيئة، لم يقدم الشكل الفولكلوري للشخصية الشامية، بل قدم الإنسان الشامي في تلك الحقبة بكامل مواصفاته الحياتية وهذا سر نجاحه. «شخصية أبو عصام في «باب الحارة» فيها الكثير من والدي، ومن شخصية جدّي الحكيم الهادئ».


5 تواريخ

1952
الولادة في دمشق

1976
شارك في أول عمل تلفزيوني بعنوان «سمر» (إخراج سليم صبري)

1989
تزوج الكاتبة عنود خالد

2008
حصل على «جائزة أدونيا» لأفضل ممثل عن دوره في مسلسل «ليس سراباً»

2009
انتهى من تصوير دوره في «قلبي معكم»، ويصوّر دوره في «الحصرم الشامي».