حسان الزين


لإرسال رسالة الى المحرر، انقر هنا

يُنقل أن وليد جنبلاط حين يمازح غازي العريضي المعروف بموهبته الخطابية يقول له: لكل طائفة قنديلها، ويقصد بالطبع كما لا يخفى على أحد المتفوّه ناصر قنديل. صائب جنبلاط ومهضوم. فالمذاهب عندنا تتشابه كأنها إخوة، أو يولد بعضها من بعض، ووجوهها مرايا. لكن، على الرغم من ذلك، ثمة اختلافات في ما بينها. ما يعنيني، وبعيداً عن أي هرطقات أنثروبولوجية وتفاهات عنصرية، هو ما «تمتاز» به الشيعية السياسية عن غيرها من السياسات الطوائفية. أقول ذلك وإن كنت أتجنّب إثارة الغيرة لدى السياسات الطوائفية الأخرى، الغيورة بعضها على بعض.
الشيعية السياسية، اليوم، سياميّة، برأسين وجسد واحد.
هذا ليس اكتشافاً جديداً. الجميع يعرف. واللبنانيون أكثر من يعرف. يعرفون حتى وهم لا يعرفون. يعرفون حتى وهم يجهّلون أنفسهم ويحجب بعضهم بعضاً خلف سواتر من الجهل والعنصرية، بعضهم تجاه بعض.
هكذا، يمكن من يشاء أن يكون طائفياً ويمقت طائفية الآخرين ويكره الآخرين. بلطف وحضارة وديموقراطية. يمكن من يشاء أن ينتبه فجأة إلى خطر الشيعية السياسية، كأنها ولدت فجأة ولم تكن يوماً حركة «محرومين» (أي ضد الحارمين) وخاضت ضد إسرائيل حرباً أو حروباً لا تُزال آثارها بعملية تسوية. ويمكن من يشاء أيضاً أن ينزعج من استنفار السنيّة السياسية بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، كأن هذا الاستنفار عارض بسيط وترف يمكن الاستغناء عنه، وكأن الحريري لم يكن، واغتياله لا يهدّد النظام الذي أسهم في بنائه. ويمكن من يشاء أيضاً وأيضاً أن يستغرب إصرار المارونية السياسية على الحفاظ على امتيازاتها في النظام. ويمكن ويمكن ويمكن. ما أشطر اللبنانيين في التنصّل من المسؤولية ومن الوعي.
لا أبرياء بيننا.
كما السياسات الطوائفية عموماً، كذلك الشيعية السياسية، تتبلور، تتجلّى، بين حب الذات والاستعداد لملاقاة «حب» الآخرين. لم تولد فجأة. نبتت في الأطراف «المحرومة»، ونزحت إلى أحزمة البؤس، وانتشرت وتمدّدت وتمرّدت وخافت وأخافت. وفي مسيرتها المبجّلة هذه تصارعت مع نفسها حتى وَجَدت السبيل إلى ائتلافها المشروط بظروف المرحلة المحلّية والإقليمية.
ثمة رأس، في الائتلاف السيامي هذا، ولد في مرحلة السعي إلى مجاورة المذاهب الأخرى، وما زال (حركة أمل ـــــ نبيه بري) ينظر إلى البلد من لعبة النظام بما هو تقاسم مذهبي طائفي يستند إلى الظروف الإقليمية. الدولة بالنسبة إليه حصص ومنافع يجاهد لنيل القدر الأكبر منها. أما الرأس الثاني (حزب الله)، الذي ولد من الأول وقد ثار عليه، فتبلور «وعيه» وخطابه إبّان الحرب، في خضم النزاع المذهبي المعقود على شبكة من الحروب والعقائد الإقليمية والتاريخية والدينية. وإذ لم ينسَ للحظة أنه ثورة على الرأس الأول، تجاوز طموحه إلى إلغائه، بل أدرك أن الرأس الأول ضرورة سياسية بالنسبة إليه. وقد باتا، في اللحظة السياسية التي تشهد تحالف حليفيهما الإقليميين، شريكين يوزّعان الأدوار الداخلية. الأوّل في الدولة ويسعى إلى المزيد و«الرحرحة» على صعيد الحصص والمنافع، والثاني عينه على النظام بما هو سياسة وموازين قوى محليّة وإقليمية. الأول ابن صيغة 1943 والجمهورية الأولى ويتحرّك لميثاق جديد له فيه حصة وتمثيل وامتيازات. والثاني ابن الحرب المفتوحة على كل الجهات والجبهات، وابن الثورة ضد الرأس الأول وحركته نحو التمثّل بالآخرين والوقوف بينهم.
فضرورة الرأس الأول للثاني من سهولة إيجاده (الأول) لغة مشتركة مع آخرين في السوق اللبنانية ودولتها، وفي السوق السياسية الإقليمية والعالمية، ولا سيما في لحظات البحث عن مخارج وتسويات. أما حاجة الرأس الأول إلى الثاني، فمن القوّة الحربية والتعبوية التي يختزنها. وإذا كان الرأس الثاني يطمئِن الذاتَ المذهبية إلى نمو قدراتها وسلاحها، ينحو الأوّل إلى استثمار النمو ذاك وترجمته في الدولة، مع كلام يهدف إلى طمأنة الآخرين. فالرأس الأول يعرف حدود الآخرين، فيما الثاني يثير الالتباس والمخاوف عن فهمه للحدود عموماً. الرأس الأوّل يتقن لغات الآخرين. الرأس الثاني يحترف الثورة على لغات الآخرين، الثورة بما هي إحساس عميق عقيم بفقد الصوت والتواصل. ففيما يجد الرأس الأول دوراً مزدوجاً: تارة نحو الآخر وتارة في اتجاه الذات وتوجيهها، يسمع الثاني ارتدادات صوته وأصوات الآخرين. ويتفاقم الضجيج وسط صراع المذهبيات المتوحّدة، كل منها مع ذاتها.
بحكم ذلك، يبدو هذا الائتلاف قادراً، إن لم يكن على حوار الآخرين، فعلى الحوار في ما بينه، مع نفسه، وتالياً، يمكنه توجيه السؤال إلى نفسه: لم تمت، لكن ألم ترَ من مات؟