strong>كمال حمدان *يرتبط مفهوم المواطنة الاجتماعية بموضوعه الأم، أي موضوع المواطنة الأعمّ والأشمل، مع تركيز على حقل محدد هو الحقل الاقتصادي ـــــ الاجتماعي. ويعبّر هذا المفهوم عن موضوعات محددة تؤثّر في المقدرة الكامنة للمواطنين على تطوير ذواتهم وقدراتهم ومواردهم في مواجهة عوامل الندرة وأوجه عدم اليقين.
وتتوزّع هذه الموضوعات التي يغطيها مفهوم المواطنة الاجتماعية على مستويين أساسيين اثنين: المستوى الأول هو ذو طابع كلّي وشامل ويشمل السواد الأعظم من المواطنين، ولا سيما الطبقة الوسطى والشرائح الدنيا من هذه الطبقة التي تمثّل أكثر من ثلثي إجمالي المقيمين (الحق في الصحة والحق في التعليم والحق في العمل...)؛ أما المستوى الثاني، فهو أضيق نطاقاً ويشمل فئات محدّدة تقع في أسفل الهرم الاجتماعي وتعاني من الفقر المدقع والبطالة والتهميش والإعاقة والإقصاء واللامساواة.
والتمييز بين هذين المستويين ضروري من الناحية البرنامجية، حتى لا يصار إلى التضحية بأحدهما لمصلحة الآخر، وبخاصة حتى لا يسهل للسلطات العامة التملّص من موجبات التعامل مع المستوى الأول، بحجّة «التفرغ» لمعالجة المستوى الثاني الذي ـــــ بالرغم من أولويته ـــــ يبقى محصوراً بنحو 10 إلى 15 في المئة من إجمالي المقيمين. وأيّ مقاربة لمسألة الحقوق الاجتماعية يجب أن تراعي موجبات اندراج المستويين المذكورين ضمن إطار منسّق من التكامل والترابط.
حول الإطار القانوني/ التشريعي الناظم للمواطنة (الاقتصادية) الاجتماعية
وبخلاف الأنواع الأخرى من حقوق المواطنة التي غالباً ما تكفلها النصوص القانونية، فإن حقوق المواطنة الاجتماعية والاقتصادية لا تحظى بمثل هذه التغطية في تلك النصوص. فهذه الأخيرة تتّسم بقدر كبير من العمومية، وكذلك من التقادم، ولا تخلو في أحيان كثيرة من تناقضات. وبصورة أكثر تحديداً، فإنّ النصوص القانونية لا تعيّن ـــــ في أغلب الأحيان ـــــ الحدود الفعلية والملموسة لنطاق تدخّل الدولة الاجتماعي وحجمه، وهي تفتقد بشكل غالب مراسيم تنظيمية مفصّلة، وإلى نظم استهداف محددة، وكذلك برامج مزمنة قابلة لأن توضع موضع التطبيق. كما أنها تخلو من منظومة المؤشرات والمعايير التي تسمح بالتثبّت من فعالية نتائج التدخلات الاجتماعية.
إن هذه «الفراغات» الفاقعة في المرجعية القانونية للتدخلات الاجتماعية أفسحت ولا تزال تفسح المجال واسعًا أمام السلطات العامة ـــــ وأمام العصبيات الضيقة للجماعات التي تتلطى خلفها ـــــ كي تمعن في ارتكاب الهدر وارتجال المبادرات الآنية وغير المدروسة وممارسة ازدواجية المعايير، بعيداً عن المحاسبة والمساءلة.
التجسيد الراهن لحقوق المواطنة الاجتماعية:
■ يعكس هذا الواقع جانباً أساسياً من تبعات الليبرالية الاقتصادية اللبنانية المحقّقة تاريخياً، والتي تركت مسائل كثيرة ـــــ ترتبط بحقوق المواطنة الاجتماعية ـــــ لفعل آليات السوق، أي للاعتبارات المحكومة أساساً بعامل الربح، في مجتمع يتّسم بعدم المساواة. وقد تزامن هذا النهج مع استثمارات ضخمة نسبياً وجّهها القطاع الخاص نحو مجالات اجتماعية مختلفة (الصحة، التعليم...). وهذا ما انطوى في آن واحد على نقاط قوة (توفير الخدمة، تنويعها، تطوير حجم ونوع التجهيز...) وكذلك على نقاط ضعف فاقعة (التحكم في أسواق الخدمات، شيوع احتكار القلة في بعض هذه الأسواق، التلاعب بالمعايير والمواصفات، التكتل التفاوضي للاعبين الأساسيين في القطاع الخاص في وجه الدولة التي تموّل جزءاً من هذه الخدمات...).
■ بالرغم من أن النزاعات الأهلية المتمادية والاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، قد أضعفت ـــــ موضوعياً ـــــ قدرة الدولة على إنتاج وتمويل الخدمات الاجتماعية الأساسية، فإنّ الإنفاق العام الاجتماعي اتجه نحو الارتفاع في السنوات العشر الأخيرة، كنسبة من إجمالي الإنفاق العام. بيد أن النتيجة العملية ـــــ بحسب ما تؤكده الدراسات الإحصائية المتاحة ـــــ بقيت فجّة وواضحة: إن مخرجات عملية التنمية الاجتماعية في لبنان لم تتناسب قطّ مع حجم الإنفاق الاجتماعي العام، الذي يرتدي في جانب أساسي منه طابعاً رجعياً (Regressif) بسبب عوامل عدّة، أهمها ضبابية وعدم وضوح نظم الاستهداف، وتعدد الوسطاء بين الخدمة العامة والمواطن.
■ فتجسيد الحق في التعليم تطوّر بسرعتين (Deux vitesses)، واحدة للفقراء والفئات الاجتماعية المهمشّة، وأخرى للشرائح العليا من الطبقة الوسطى وللميسورين. وانعكست هذه الازدواجية تفاوتاً حاداً في نوعية التعليم، وتبايناً في معدلات الرسوب والتسرب والترفّع (وغيرها من المؤشرات) بحسب أنواع التعليم الرسمي والخاص وكذلك بحسب المناطق والفئات الاجتماعية المختلفة. وبدت بنية تدخلات الدولة في هذا الحقل (التعليم الرسمي) معاكسة لما انتهت إليه بنية التدخلات المماثلة في البلدان المتقدمة التي سبقتنا: حضور ضعيف نسبياً للتعليم الرسمي في لبنان في المراحل الابتدائية وما قبل الابتدائية، ومن ثمّ ارتفاع تدريجي لهذا الحضور في مراحل التعليم اللاحقة، وصولاً إلى الجامعة.
■ وخضع تجسيد الحق في الصحة، إلى حدّ معيّن، للمنطق نفسه، حيث تعددت نظم التأمين الصحية العامة وشبه العامة ـــــ وفقاً لشروط انتساب ومعايير تغطية غير خاضعة لمنطق متجانس ـــــ ولكن مع استمرار افتقاد نحو نصف اللبنانيين نظام تأمين صحياً صريحاً ومحدداً. واستقرت تكاليف الخدمة الصحية على مستويات عالية نسبياً (في المقارنات الإقليمية والدولية) بالرغم من وجود فائض في العرض الصحي على المستوى الوطني، لجهة متوسط عدد أسرّة المستشفيات وعدد الأطباء والصيادلة لكل ألف نسمة، وكذلك لجهة حجم ونوع التجهيز الصحي مقارنةً بمستوى المداخيل. وقد شجّعت آليات التمويل الحكومية الراهنة على إعادة إنتاج هذا التعايش الهجين بين المستوى المرتفع للكلفة الصحية من جهة، وذلك الفائض في العرض الصحي من جهة ثانية.
■ ويبرز الخلل في تجسيد الحقوق الاجتماعية، بصورة أشدّ سطوعاً، إزاء موضوع توفير فرص العمل لعشرات الآلاف من اللبنانيين المتدفقين سنوياً إلى سوق العمل. فقد بقي دور الدولة المباشر (عبر التوظيف الحكومي) وغير المباشر (عبر سياسات التحفيز الإنمائية القطاعية) معدوماً أو شبه معدوم على هذا الصعيد. وفي المقابل خلّفت التركيبة الاجتماعية ـــــ الطائفية بصماتها الملموسة على آليات العمل الناظمة للقطاع الخاص في هذه السوق. وقد بدت العلاقة بين بنية الطلب على العمل من جانب المؤسسات الخاصة، وبين بنية العرض الوافد من مخرجات النظام التعليمي، محكومة باعتبارات مناطقية وطائفية وعائلية ضيقة ومعيقة للتقدم. وهذا ما أفضى إلى ضعف حراك القوى العاملة، وعزّز البطالة الصريحة والبطالة المقنّعة والنقص في التشغيل، وأنتج ذلك المستوى البائس من إنتاجية العمل.
■ في ما يتجاوز الحقوق الاجتماعية الأساسية للمواطنة (أي التدخلات الأعمّ والأشمل)، إلى القضايا الأضيق نطاقاً التي تشمل مجموعات سكانية محددة تعاني الفقر المدقع والهشاشة والإقصاء وتبعات عدم المساواة...، فإن صورة المعالجات المطلوبة لا تبدو زاهية أو واعدة. فالموارد البشرية والمالية والمؤسسية المخصّصة لتوفير تلك المعالجات، ونظم الاستهداف المحددة الواجب اعتمادها، والبرامج المزمّنة التي ينبغي تنفيذها... إن هذا كله يستمرّ عرضة للتشويش والارتباك. وتطغى فوضى شبه شاملة ـــــ وأحياناً فوضى «ذكية» ومنظّمة ـــــ على العديد من التدخلات الموضعية التي طوّرتها الدولة في هذا المضمار، وطوّرتها كذلك مؤسسات ما يسمّى «المجتمع المدني» بدعم من المؤسسات الدولية التي بقيت حريصة على التقيّد بأجندتها الخاصة.
الدولة الطائفيّة وتشابك المصالح
من ينتج الخدمة الاجتماعية؟ من يموّلها؟ وهل من تقويم لحسن الأداء والمتابعة والتثبّت من وصول الخدمة إلى المستهدفين الأساسيين منها؟
■ لا تنتج الدولة بشكل مباشر إلا القليل من الخدمات الاجتماعية (باستثناء التعليم الرسمي)، بينما تضطلع بدور أكبر نسبياً في تمويل إنتاج هذه الخدمات عبر القطاع الخاص والجماعات غير الحكومية المتنوعة، ولا سيما الدينية منها.
■ بيد أن الدور التمويلي للدولة يبقى في جميع الأحوال متواضعاً نسبياً، وخصوصاً على مستوى المقارنات الإقليمية والدولية: فالدولة تكاد تغطي نحو 40% من إجمالي إنفاق المجتمع على التعليم، مع العلم أن ما بين ربع وخمس هذا التمويل العام يتحوّل إلى أقنية التعليم الخاص عبر المنح المقرّرة لموظفي الدولة؛ كذلك فإن الدولة لا تغطي إلا نحو 35% من إجمالي إنفاق المجتمع على الصحة، مع العلم أن هذه النسبة تشمل ما يدفعه الأجراء وأصحاب العمل من اشتراكات لفرع المرض والأمومة في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.
■ وفي كل ما له علاقة بالتمويل العام للخدمات الاجتماعية غير المنتجة من جانب الدولة، يسجّل دور كبير للجماعات الدينية ـــــ السياسية، التي غالباً ما ترتدي ثوب الجمعيات «الأهلية» غير الحكومية (التعليم الخاص المجاني، المستشفيات والمؤسسات الصحية المملوكة من هذه الجماعات، خدمات الرعاية الاجتماعية، خدمات مؤسسات الإيواء...). وإذ يؤدّي القطاع الخاص دوراً أساسياً في هدا المجال، فإن مجمل عناصر القوة والضعف التي يتميّز بها الاقتصاد اللبناني تنعكس في آليات عمله وأدائه، مع ميل بعض حلقاته نحو تعظيم الربح، وميل بعضها الآخر نحو التفلّت من نظم التعريفات ومعايير العمل المهني ومن الرقابة والمساءلة.
■ إن هذا يطرح مشكلة الضمانات المفترض توفيرها للمواطنة الاجتماعية المتكافئة في ظل نظام سياسي مشتّت ومحكوم بمنطقين متعارضين، منطق الدولة المدنية من جهة، ومنطق الجماعات الدينية ـــــ السياسية من جهة أخرى. وتزداد هذه المشكلة حدّة عندما يسجّل اتجاه عملي نحو تفكيك نظام التأمينات والخدمات العامة لمصلحة أشباه نظم تبنيها الجماعات الدينية ـــــ السياسية المختلفة، وتتوسّلها أداة للاستمرار في إخضاع «جماهير الطوائف» سياسياً واجتماعياً في مقابل حفنة من الخدمات التي غالباً ما يجري تمويلها ـــــ وهذا هو الأفظع ـــــ عبر عمليات قضم واقتطاع للمال العام. إن استقطاب فئات اجتماعية متزايدة عبر أشباه النظم الخدمية هذه، ينطوي على آثار بالغة السلبية، وخصوصاً بالنسبة إلى انتظام مفهوم المواطنة الاجتماعية وعلاقة انتماء المواطن إلى الدولة المدنية. وباختصار إن هذا الاستقطاب يعزّز إعادة إنتاج النظام الطائفي ونخبه العائلية والدينية.
■ إن إحدى أبرز المفارقات ذات الدلالة السياسية والاجتماعية الصارخة، تتمثّل في الآتي: أن محرك التقدم الاجتماعي في الستينات وأوائل السبعينات قد تجسّد كثمرة لتضافر محاولة بناء الدولة العصرية (الشهابية) وتنامي نضالات الحركة العمالية والاجتماعية المستقلة عن السلطة والجماعات الدينية ـــــ السياسية. أما بعد الحرب الأهلية، فإن ما يمكن وصفه بتطور في دور الدولة الاجتماعي، لم يكن سوى ثمرة المقاربات التوزيعية البسيطة والمتخلفة، التي اعتمدتها السلطات العامة، والتي حكمتها علاقات المحاصصة الفوقية بين ممثلي الجماعات الدينية ـــــ السياسية المختلفة، وسط انهيار الحركة العمالية وتراجع وزن الحركة الاجتماعية المدنية عموماً.

* رئيس مؤسسة البحوث والاستشارات/ معدّ ورقة خلفيّة وأحد الكتّاب الرئيسيّين للتقرير الوطني للتنمية البشرية الصادر أخيراً عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي