أنسي الحاجأضعف ما في الشيطان أنّ تمرّده ينطلق من الحسد. لولا الحسد، هذا العجز الذي يَغلي، لساد إبليس على الملائكة بصدقه وتحوَّلت أسطورته إلى قدوة في الانتفاضة. لكن التمرّد الحاسد يسقط من حال الاستقامة إلى حمأة الغيرة والبغض. لا يعود رفضاً لظلم في سبيل حقّ، بل يمسي حرباً على نعمة الآخر.
ولكنْ إذا صدّقنا رواية الشيطان يجب أن نصدّق رواية التكوين برموزها، وأبرزها الخطيئة البشرية: ألم يتضايق إله التوراة من آدم لأنه أكل من شجرة المعرفة التي في وسط الجنّة؟ ألم يتوجس من أن يواصل «الخطيئة» فيأكل أيضاً من جارتها شجرة الحياة، فيخلد كالآلهة؟ وهكذا، بعدما لعنه وامرأته لانهما انتهكا أوامره بعدم الأكل من شجرة الخير والشر، وبعدما تراجع عن مبادئ خَلْقه الأولى المتماهية مع الحب: «قال الرب الإله هوذا الإنسان قد صار كواحدٍ منا عارفاً الخير والشر. والأن لعلّه يمدّ يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضاً ويأكل ويحيا إلى الأبد، فأخرجه الرب الإله من جنّة عدن ليعمل في الأرض التي أخذ منها. فطرد الانسانَ وأقام شرق جنّة عدن الكروبيم ولهيب سيفٍ متقلّب لحراسة طريق شجرة الحياة». (تكوين، الإصحاح الثالث).
تبدو حقّاً غيرة فائقة. هكذا صوّرها كاتب السفْر. وعنه، وعن سائر زملائه في الكتاب اليهودي (وفي سواه من كتب الأديان) رُسمتْ صور الله المتداولة، وما ندري إلى أي حدّ هو الله فيها، أو هو منها براء، وماذا، قبل ذلك، نعني بكلمة الله. ونحن في هذا رهنُ مجموعة من العوامل التي خضع لها واضعو تلك الأسفار، كالغرض والمرض والِعقَد والطبع والبيئة والوراثة والثقافة والموهبة والأعصاب واللغة... وفوقها جميعاً يجب أن نتذكّر كون إله التوراة إلهاً مستقبليّاً، بمعنى افتقاده إلى ماضٍ. فنحن نجهل تاريخه، نكتشفه فجأةً وهو يرف على وجه الغمر. أين كان من قبل؟ من كان؟ لا نعرف. هكذا يبدو الخلق هنا اندفاعة خارقة إلى الأمام، وما إن يحصل وتبدأ الصيرورة حتى يبدأ الماضي في التراكم كانهيار جبل الجيلد. ماذا كان من قبل هذا الحدث؟ لا جواب. ماضي الله هو عدم الإنسان.
■ ■ ■
لطالما كانت الشجرة في صلب المعتقدات الدينية. وكان الإنسان البدائي يؤمن بأن له في شجرة ما قريناً، فيقدم لها آيات التقدير ويرفع إليها الصلاة ويعتبرها واحدة من القوى السرّية للطبيعة.
في مصر ظهر هوروس معبود المصريين الأقدمين في شجرة أكاسيا (أو أقاقيا) وظهر رع على شجرة جمّيز. اليونان اعتبروا أن السنديانة شجرة زوس والزيتونة شجرة أبوللون. في تركيا كانت تنتصب شجرة مقدسة تدعى الكيسكانو الأسود، تمتد جذورها إلى وسط الأرض، وقد اتخذها إيا، إله الزراعة والكتابة والفنون، منزلاً له، ولأمه الإلهة بو، شفيعة الخصب والقطعان. ويقال إن أوائل مؤلفي التوراة قد استوحوا هذه الشجرة الأسطورية والتاريخية، واستنسخوها في سفر التكوين، أول اسفار التوراة، تحت هيئة شجرة الخير والشر.
وإلى يومنا هذا لا يزال التتار يعتقدون ما كانوا يعتقدونه من ألوف السنين، وهو أنه على سُرّة الأرض، في الوسط من كل شيء، تشْمخ أكبر شجرة على الإطلاق: تنّوبة عملاقة، وهي من صنف الصنوبريات، تلامس قمّتها بيت الإله الأكبر. ويقول الباحث ديدييه كولان إن الإنسان القديم نسب فضائله ورذائله إلى الأشجار من قبل أن يردّها إلى الأبراج الفلكّية بحقبة مديدة.
تقول المهابهاراتا ـــــ توراة الهندوسية ـــــ : «يجب قطع «اسفاتا» ذات الجذور الضخمة، ثم البحث عن المكان الذي لا عودة منه». وبحسب المعتقدات الهندية العتيقة تعتبر «اسفاتا» شجرة كونية تنغرز جذورها في السماء، بينما تقوم غصونها وأوراقها بتغطية الأرض. إنها إذاً شجرة بالمقلوب، بينها وبين الإنسان العديد من النقاط المشتركة: الجذور هي الرأس، الأغصان هي الأعضاء، الجذع هو الصدر والقلب، الأحشاء هي الخير والشر إلخ...
وفي المسيحية، الشجرة رمز الحياة التي باركها الله، وثمة اعتقاد بأن صليب المسيح صُنع من خشب شجرة المعرفة الفردوسية، مما حوّل الصليب نفسه إلى «شجرة الحياة».
أحياناً يُخْلَط بين الشجرتين، شجرة المعرفة وشجرة الحياة، والواقع أن الأولى تفضي إلى الثانية. فعندما طُرد آدم وحوّاء من الجنّة عقاباً على تعاطيهما فاكهة المعرفة حرما خيرات شجرة الحياة. المعرفة أصابتهما بالموت. أنزلتهما في العالم وانتزعتهما من نفسهما. أضاعا المحور. لم يبقَ لهما من هذه المرحلة غير الذكريات. وهذا هو الإنسان: كائن «كان»، يمضي العمر وهو يستعرض شريط نعمةٍ فَقَدها، ويحاول التقاطها واسترجاعها سواء عبر الشغل على الذات والحَفْر في أنفاقها أو بالهرب إلى السرابات.
وأسعدهم من لم يدركه هذا الوعي وعوَّضته العناية بالبَرَكة الفطريّة يعيشها وتعيشه ببراءة النوم عن المعرفة، مقتصراً من الخطيئة على تبنّي إرثها «قانونياً» لا نفسيّاً، فهو في الحقيقة مُعفى، وفردوسه يحتضنه كما يحتضن الجسدُ الروح والروحُ الجسد.
■ ■ ■
ومع ذلك، لنفترض أن الله غضب من عصيان حوّاء وآدم (الرجل اتهم امرأته بأنها هي المسؤولة، مثبتاً «شهامته» منذ البدء) فعلى ماذا غضب؟ على كون الإنسان أصبح مثله يعرف الخير والشر. هذا ما تقوله التوراة.
غضب، لأنه حزن على مصير مخلوق يصبح في مستوى مصير الخالق، وممزّقاً بمعرفة الفرق بين الجهل والمعرفة.
غضب لأن الإنسان بات يرى... وقد كان في غبطة عدم الرؤية، عدم الوعي السفلي، في هواء البراءة والجهل الأنقى ربمّا، من عقل الله نفسه، لأن عَقل الله مليء بالمعرفة، ولولا خبرته بأخطارها لما حاول أن ينقذ مخلوقه منها.
هل نستنتج أن الله كان يريد أن يجعل مخلوقه أسعد منه، شافياً من جروحه؟ أن يخلق كائناً تامّ التحصّن، فرحاً كل الفرح، آمناً كل الأمان ولذلك أوصاه بعدم مد اليد إلى شجرة المعرفة حتى لا يصاب بما أُصيب هو به من مسؤولية ومن «استفاقة»، من ألم البصيرة وقَلَق الأبوّة؟
تكون «غيرة» الله حينئذ غيرةً «على» الإنسان وخوفاً على الابن وصل إلى حد الندم على خلقه.
■ ■ ■
يرتبط فداء المسيح بالحرف الأول من الخليقة، بل بما قبلها، بالنيّة الأصلية لله: نيّة الحب الأقصى، الذي انكسر في بدء انطلاقته، فكسر معه المحبوب، ثم عاد، بعدما ندم المحبوب على خطيئته، وندم هو بدوره على غضبه، مكفّراً عن طريق التماهي مجدداً، جسدياً حتى الموت هذه المرة، مع الإنسان، ويكون الندم، عند الخالق وعند المخلوق، أعظم صفة تلي أخطر حدثين في التاريخ: حَدَث الخَلْق، وحَدَث الخطيئة، أي الصيرورة. وما كان الخلق إلّا توطئة للصيرورة.
تبقى حكاية شجرة الحياة.
خشية الله أن يمد الإنسان يده إليها ويسرق الخلود.
ولمَ يخشى الله ذلك؟
ولمَ هذه الشجرة هنا؟ لمن؟
التفسير الديني يقول إنها رمزٌ لتطلع الإنسان إلى الخلود وإشارة إلى حصوله مستقبلاً عليه.
ولكنْ لمَ مستقبلاً؟ ولمَ «الخشْية» الإلهيّة، وكأن الإنسان قد أصبح، فجأة، عدوّاً؟
باب التأويل مفتوح: بعدما خَلَقه، استكثر عليه أن يشاركه عدم الفناء. أو: يستعذب الخالق امتحان الخليقة لا لتعذيبها بل ربّما لاختبار مدى مناعة ما خَلَق. أو: زرع كاتب السّفر هذه الشجرة في الجنّة شعوراً منه، ولو تظاهر بالعكس، أن الله كان «يجب» أن يوجدها هناك، وكان عليه أن لا يمنع الإنسان من أكل ثمرتها...
■ ■ ■
لعلّ الخطيئة هي تبديد الطاقة. عندما واصل أول رجل أول امرأة أنفق إكسيره الإلهي، فأُصيب بأول ميتة في التاريخ.
إذا لاحقنا تفسيراً كهذا، يبدو التناسل مخالفة، كأن الله كان ينوي خلق بشرية من الآلهة، قليلة وخالدة، بشرية من الآلهة الثانوية ربّما. لكن آدم سارع وخان الله مع حواء.
فتح الإنسان باب الوصال، فأغلق الله في وجهه باب الحياة الإلهية. جريمة وعقاب. هل كانت النشوة التي أعدها الله للبشر أجمل من النشوة التي اختارها آدم وحواء؟ هل كان النسل الإلهي من آدم أو من آدم ـــــ حواء سيكون أفضل من نسل آدم وحواء؟
إذا كان الله هو الطاقة الكبرى، والكون نفحة من هذه الطاقة، يمكن أن نتخيّل أنه خلق الإنسان وزوده بعض الطاقة ليحتفظ به وينمّيه فيصبح إلهاً صغيراً مفوضاً على الأرض.
ولكن عند ذاك نتساءل: لماذا خلق الله المرأة؟...