لم يعد مفتي مصر علي جمعة وحيداً في الحديث عن إلغاء الحج، فقد ارتفعت أصوات في بعض الدول العربية تدعو لمنع الحجاج من التوجه إلى السعودية، وخصوصاً من تونس. حتى في المملكة دعا بعض العلماء إلى اتخاذ قرار حاسم، أو تخفيف العدد إلى الحد الأدنى، ما انعكس نصحاً سعودياً لكبار السن والحوامل بتأجيل زيارتهم. ولكن ما هو رأي المرجعيات الدينية السنية أو الشيعية في مسألة العزوف عن الحج؟ وهل من سوابق؟
منهال الأمين
لم تحسم أيٌّ من المرجعيات الدينية الشيعية أو السنية مصير الحج لهذا العام، ربطاً بانتشار فيروس «اش 1 أن 1»، باستثناء تصريح مفتي مصر علي جمعة، عن إمكان «الإلغاء إذا تحقق الضرر بوجود هذا التجمع البشري الهائل»، إضافة إلى «تلميح» السلطات التونسية إلى احتمال منع مواطنيها من الحج «احتياطاً». أما السعودية، فكل الإصابات والمخاوف لم تدفعا بها إلا إلى «نصح» الحوامل وكبار السن بتأجيل الزيارة، مع العلم بأنه لم يعد يُسمع عن إصابات إضافية في المملكة. لكن هل هذا يعني أن الموسم مهدد بالإلغاء؟ وهل هناك سوابق؟
يروي المؤرخ الشيخ جعفر المهاجر أن الحج توقف لسنوات عدة عندما استولى القرامطة على مكة في القرن 11 الميلادي «لأن الطرق لم تعد آمنة»، مذكّراً بأن «القاعدة الشرعية تقول إنه إذا ترتب على العمل العبادي ضرر كبير وشبه مؤكد، يسقط التكليف».
ويؤيد الفكرة الشيخ حسين الخشن من مكتب المرجع السيد محمد حسين فضل الله، «إذا كانت المخاطر محدقة بالحج يمكن المنع، لا بل يصبح واجباً». ويعود بالذاكرة لعام 1988، حين أصدر الإمام الخميني قراراً منع فيه الحجاج الإيرانيين من التوجّه إلى السعودية، على خلفية المجزرة التي قُتل فيها أكثر من 400 حاج إيراني خلال موسم الحج الذي سبقه.
ولكن، في ظل مخاطر صحية كالتي يمر بها العالم اليوم، فإن المهاجر يرى وجوب أن تحدد الجهات العلمية «الموضوع» (بالمصطلح الفقهي)، جازماً بأن اكتظاظ الناس في الحج، وبينهم وافدون من دول موبوءة بالأنفلونزا، سيؤدي إلى عواقب صحية وخيمة، أما تحديد الحكم (الشرعي) فهو لأهل الخبرة، أي الفقهاء. ويشرح المهاجر العلاقة بين المرجع ومقلديه فيؤكد أن «لا تقليد في مسألة بديهية. فإن تيقن المكلف، بل إذا ظن ظناً قويًّا، بوقوع الضرر عليه، فإنه لا يحتاج لحكم شرعي، ويكون خوفه حجته» لعدم «إلقاء النفس في التهلكة».
من جهته لفت الخشن إلى إفتاء فضل الله بجواز وضع الكمامات (ممنوع ستر الوجه في الأحرام)، زيادة في الوقاية، على اعتبار أن الجهات المختصة (منظمة الصحة العالمية وغيرها) توصي باتباع إجراءات وقائية، مشيراً إلى أن «الموضوع في طور الدرس نظراً لترقّب التطورات، علمياً، لجهة انتشار الوباء وارتفاع منسوب خطورته، وإمكانية اتقاء الإصابة بالمتابعة الطبية والرقابية اللازمة، أم لا. ويرى الخشن أن حسم مثل هذا «الأمر الحساس» يتطلب جهداً مشتركاً من الجهات الطبية العالمية وسلطات الدول الإسلامية، وتلك التي يتوافد منها الحجيج وينتشر فيها الوباء، وعندما تقدّم هذه الجهات رأياً حاسماً، فيكون لزاماً على الفقهاء حينها تقديم الجواب الشافي».
ويشترط الخشن تحصيل المكلف رأي مرجعه «على اعتبار أن الأخير لا يمكن أن يفتي بما يؤدي إلى الضرر بالناس، لأنه يوازن بين أداء الفريضة وصحة المكلف». إلا أنه لفت إلى أن المكلف إذا وقع تحت «الحرج الشديد فإنه يصبح غير مستطيع وبالتالي يسقط عنه التكليف أيضًاً».
أما مدير مكتب السيد علي الخامنئي في لبنان الشيخ محمد توفيق المقداد، فكشف أن الاهتمام منصبّ حالياً على السير في إجراءات الحج، وسبل الوقاية المرافقة لها «إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً»، داعياً «كل من تحققت لديهم الاستطاعة إلى متابعة استعدادتهم». واستبعد أن يكون هناك فتوى بالامتناع عن التوجه إلى السعودية «بناءً على المعطيات المتوافرة حتى الآن عن قدرة التحكّم بانتشار المرض». أما مفتي صيدا والجنوب الشيخ سليم سوسان، فقد رأى أن شرط الحج الاستطاعة في الصحة والمال وتأمين الطريق، لذا يتوجب على السلطات السعودية التشدد في إجراءات الوقاية ومناشدة المرضى المزمنين وكبار السن (وهو ما حصل فعلاً) تأجيل الحج، لأن مناعتهم ضعيفة، ولا مانع شرعياً من منعهم. وأشار إلى أن «هناك باباً في الحج يبيح الحجة النيابية عن غير المستطيع، فمن الأولى أن يكون هناك حل لقليل المناعة المعرض للإصابة أكثر من غيره، حفاظًا عليه وعلى غيره»، بما أن «القاعدة الشرعية تفيد بأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، كذلك فالضرورات تبيح المحظورات، وهي قاعدة ملزمة للناس ولا يجوز تخطيها». و«إذا شعر الإنسان بعدم الطمأنينة وخاف على نفسه فله أن يؤجل حجه هذا العام، لأن الاطمئنان من شروط العبادة».
كذلك، أعلن ممثل السيد علي السيستاني في لبنان، حامد الخفاف، عدم صدور أي شيء عنه حتى الساعة «مع أنه يتلقى تقارير يومية عن تطور المرض». ولكنه لفت إلى أن المرجع في مثل هذه الحالات «يُستفتى فيجيب»، أما «أي موقف شرعي آخر فهو رهن بالظروف».
ومع «أن الحج ركن من أركان الإسلام، إلا أن الأصل أيضاً مراعاة أمن الإنسان من جميع الجوانب»، يقول إمام مسجد الأوزاعي الشيخ هشام خليفة (من أتباع المذهب السني) الذي دعا «الحكومات بالتعاون مع الجهات الطبية لوضع ضوابط تضمن سلامة الحجاج، عبر تخفيف العدد واعتماد الكشف المبكر في المطارات والتشدد بمنع كل من لا تنطبق عليه شروط الصحة من أداء الفريضة، لأن ضرر وجوده أكبر من ضرر منعه». ورأى أنه «إذا كان هناك شبه إجماع لدى أهل العلم والطب على خطورة الوضع فإن المجامع الفقهية لا بد أن تنظر في الأمر وتتخذ القرار المناسب، فإذا غلب الخوف الظن عند المكلف فإن هذا يدخل في إطار عدم الاستطاعة وله عذره الشرعي، ولكن هذا ليس سبباً في منع العبادة عن الأمة كلها، لذا يجب حسم الأمور طبياً»، مرجَحاً أن يحجم كثيرون عن التوجه إلى الحج هذا العام، «أما إذا تفاقم الوضع فقد يكون هناك إلغاء أو امتناع شبه كلي».