مناعة الذباباليوم كان متعباً! أشعر بإرهاق وتعب في كل جسمي. الحقيقة أن العمل هنا ليس سهلاً. ماذا أقول؟ ليس سهلاً بالمرة. لكنني أستمر بالقول إنه «جيد .. جيد» حتى أقنع نفسي بأنه جيد، لكنه متعب، وأنا أشعر بالإرهاق.
وبسبب هذا الإرهاق الشديد الذي أشعر به، لن أطيل الحديث اليوم. سأروي لكم حكاية حدثت معي، ولنقل إنها فكرة خطرت على بالي عندما لمحت أمراً ما! اليوم أزعجتني ذبابة، وأنا أقوم باقتطاع بعض شرائح «الباسترما» (لحمة الحبش) لأحد الزبائن (فالمخبز الذي أعمل فيه عصري، وهو عبارة عن مخبز وبقالة في الوقت نفسه)، المهم أن الذبابة أزعجتني، وما إن ذهب الزبون حتى انقضضت عليها لأبيدها بمبيد الحشرات الشهير «بيف باف» ! وقد أرهقتني مطاردتها فوق إرهاقي وأتعبتني، حتى نلت منها في النهاية وأرديتها قتيلة!
عندما تسنّى لي بعض الوقت لأفكر في جريمتي، تذكرت أن هذه ليست أول مرة تزعجني فيها ذبابة وقحة! لكن دائماً كنت أتغلّب عليه (الذباب) بمبيدات حشرات مختلفة، ثم بعد التفكير والتمحيص وجدت أن الموضوع أخطر من مجرد ذباب وقح يزعجني!
بداية، كان التغلّب عليه سهلاً، مجرّد أن أنفخ عليه يهرب. لكنه أصبح أكثر جرأة ووقاحة إلى درجة مزعجة، فبدأت استعمل مبيدات الحشرات، وكنت أتغلّب عليه بسهولة وبساطة، إذ كنت أستعمل مبيدات حشرات غير قوية. لكن، مع الوقت، أصبح للذباب مناعة، ولم تعد هذه المبيدات فعالة في إبادته. ورويداً رويداً بدأت أغّيّر أنواع المبيدات، ولجأت إلى خلطات من أنواع قوية، وبدأت قوة المبيدات تزداد، لكن بدأت مناعة الذباب أيضاً ضدها تقوى، حتى أصبح ما كان نافعاً فيما مضى، عديم الجدوى الآن، حينها لجأت إلى البيف باف!
لكنني خائفة الآن من أن يطوّر هذا الذباب مناعة أقوى من البيف باف، لهذا سأبدأ بالبحث عن مبيد حشرات أقوى تحسّباً. وتنبّهت فجأة إلى أن ما يحدث هنا لنا هو الشيء ذاته! فنحن الذباب وهم مزعوجون من وجودنا ويحاولون إبادتنا، لهذا كل مرة يطوّرون وسيلة لإبعادنا وإسكاتنا وإخراسنا. وكل مرة نطوّر نحن جيلاً ذا مناعة أكبر، صامداً أكثر من الذي قبله، جيلاً لا يساوم مثل الذي كان قبله!
والآن سلاحهم ضدنا هو السجن والتحقيق والتهم الأمنية. فيما نطوّر نحن جيلاً لا يخشاهم ولا يخشى سجونهم! لهذا بدأوا بتطوير سلاح جديد: سنّ القوانين العنصرية! ونحن على عهدنا باقون، وسنطوّر جيلاً يتصدّى لكل هذا، جيلاً ينتصر لهذه الأرض وهذا الشعب!
الجليل ـ أنهار حجازي

■ ■ ■

الكيماوي للمهمات الصعبة!

«بيف باف» أفضل طارد للحشرات الطائرة والزاحفة. إيه أهلين ستنا! قضيت في مخيم عين الحلوة يومين، شرب البرغش من دمي حتى شبع. لم ينفع معه شيء. برغش المخيم يحلّق بحريّة، وينفّذ غاراته بهدوء. «وززز»، غارة وهمية لا داعي للرد بمضادات «البيف باف» الأرضية. مهلاً! قد تكون الذبابة التي قتلتها ضلّت طريقها إلى مخبزك، فمكانها هنا، حيث تطوف المجارير على بيوت الناس، وتترسّب بقاياها وتنشف في عين الشمس. هنا في المخيم تكثر الأشجار (والسلاح) عكس مخيم برج البراجنة. يسوّر المخيم حائط كبير، لا يسمونه جداراً، لئلا تستدعي الكلمة بقية الجملة «الفصل العنصري». الجدار بني قبل «جدار الفصل الديموقراطي العنصري» في الضفة الغربية. على مداخل المخيم كثير من الحواجز العسكرية، يعاني الجيش أيضاً من مشكلة البرغش، برغشنا. أما وجودهم على باب المخيم فليس للحفاظ على أمننا، بل «ليخلّوا عينهم علينا». المهم، في لبنان قصتنا أكبر من «البرغش والذباب»، فقد وصل الأمر بأحد الزعماء اللبنانيين، رحمه الله رغم ذلك، إلى المجاهرة برغبته في تحويل مخيم شاتيلا إلى «حديقة حيوانات». للمناسبة «مش هيّنة»: تخيّلي الأسود، القردة والطيور. هذا الحديث كان عن شاتيلا. أما مخيم نهر البارد، وخلال «الحرب على الإرهاب»، هرب اللاجئون تلبية لرغبة ممثّل دولة فلسطين، لأنه «هكذا تكلّم عباس زكي»، بالإذن من فريدريش نيتشه. نقلت الوسائل الإعلامية عملية الهروب وكانت تنتظرهم على باب المخيم لتعرف «شو عم يصير جوّا»؟. عزيزتي، مشهد أحد اللاجئين أيام معارك البارد يقضّ المضاجع. قال يومها: «نحن وباء، طردنا من فلسطين، ورضينا بعيش المخيمات، واليوم نطرد من نهر البارد. نحن وباء يا ناس يا هو، ضْربونا بالكيماوي حْرقونا وارتاحوا من همّنا ورَيحونا». والكيماوي يقتل البشر والبرغش على حدٍ سواء مهما تطوّرت مناعته. وبعدك عم تحكيني بالـ «بيف باف»؟
برج البراجنة ـ قاسم س. قاسم