حسن خليل


لإرسال رسالة الى المحرر، انقر هنا

المقاومة حق مشروع ضد عدو أو محتل، تقره كل التشريعات الحقوقية الدولية، ولكن المقاومة كلمة مطّاطة تتجاذبها قوى الواقع حسب الظرف والجغرافيا. فشارل ديغول في مقاومته لم يحصل على إجماع الشعب الفرنسي، وكذلك الجيش الجمهوري الإيرلندي، بينما كانت مقاومة كل من فيتنام الشمالية ومنظمة التحرير الفلسطينية تحظيان بتغطية سلطتيهما وشعبيهما.
واقع المقاومة في لبنان، كما واقع لبنان السياسي، ينتحر عندهما المنطق. يبدأ التخلّف الفكري عند مقارنة البعض للمقاومة اللبنانية لإسرائيل «بالمقاومة» في الحرب الأهلية، ويتناسى المنظّرون أن «مقاومة» الحرب الأهلية التي يدّعي عرّابوها أنها كانت ضد النفوذ الفلسطيني وبعدها الوجود السوري، لم تكن بالفعل للحفاظ على الكيان اللبناني كما نعرفه، بل لفرض التقسيم والكانتونات بحجة «اختلاف الحضارة». أمّا المقاومة اليوم، فلم تدّعِ يوماً أنها طائفية (وإذا كان المقاومون اليوم هم بغالبيتهم من طائفة واحدة، فهذا لم يكن قبل عشرين سنة، وهو أمر يجب بحثه ضمن الاستراتيجية الدفاعية المستقبلية). وهي لم تدّعِ الدفاع عن جنوب لبنان فقط (فهي قاتلت الاحتلال عندما كان في بيروت والجبل ومنطقة صيدا وساحل الشوف)، بل تدافع عسكرياً عن الكيان كله، ولم تطلب حتى الآن ترجمة سياسية لإنجازاتها، وهو أمر محل نقاش عند أهلها قبل الآخرين.
وإذا ما استُعرضت إنجازات المقاومة، منذ تحرير القسم الأكبر عام 1985 إلى مواجهة عدواني 1993 و1996 وصولاً إلى حدث التحرير عام 2000، وانتهاءً بعدوان تموز 2006 الذي خرجت منه المقاومة بأهم إنجاز عسكري ــــ إستراتيجي في المنطقة العربية، هذا الاستعراض يجعلنا نتساءل ببراءة عن خبث الجهات المحلية والعربية والدولية التي لا تدّخر جهداً في مهاجمة المقاومة في لبنان، ومحاولة جعلها في موقع المتّهم الذي يحتاج إلى تبرير تقديم أبنائه شهداء، لمنع إسرائيل من استباحة أرضه والاعتداء على شعبه.
لماذا أصبحت المقاومة في هذا الموقع؟ هل هو الاستهداف فقط ام أنها لم تُوفَّق في ترجمة إنجازاتها محلياً وإقليمياً؟
الجواب على شقّي السؤال هو، ببساطة، نعم. وإلاّ كيف يمكن تفسير أن تصل بها الحال أن ترتفع أصوات الورثة السياسيين الجدد وخلفهم آباؤهم وطلب ضمانات من المقاومة لا العكس؟ الجواب مرة أخرى ببساطة أن المقاومة رفضت أن تصدّق أن المعاملة الأخلاقية لا يمكن تطبيقها في الشأن السياسي. بكلام آخر، هناك خطأ استراتيجي ما زالت المقاومة تمارسه، وهو عدم فصلها بين الأخلاق والسياسة. وبسبب هذه الأخلاقية، وافقت المقاومة حتى على إدراج موضوع سلاحها على طاولة الحوار. وفي هذا القبول رضوخ للشك في شرعية السلاح، علماً بأن البديهي هو الحسم في هذا الأمر وبأن سلاح المقاومة هو سلاح شرعي يساوي في شرعيته السلاح الشرعي في الدولة.
لكن ما الذي يريده أصحاب النيّات السيئة بالنسبة للمقاومة وسلاحها؟
بداية، تجب الإشارة إلى أن أهم سلاح للمقاومة غير سلاحها المادي، هو شرعيتها القانونية، وهذا كان متوافراً منذ عهدي الرئيسين الياس الهراوي وإميل لحود وحتى اليوم من خلال البيان الوزاري لحكومة تصريف الأعمال.
المباركة الإقليمية مفقود الأمل منها لأن المقاومة عرّت الأنظمة المتحجّرة التي تتخّذ من الاعتدال والتفاوض حجة لمقارعة مبدأ المقاومة. والمباركة الدولية مستحيلة ما دام عدو المقاومة الوحيد هو إسرائيل. محلياً المقاومة يجب ألا تحصل على مباركة بل أن تكون شرعية بالمبدأ والتطبيق.
والتجربة تقول لنا إن قراري 5 أيار حملا في باطنيهما محاولة إلغاء الشرعية الصادرة عن الدولة للمقاومة التي تكرّست سابقاً. والخطأ الفادح الذي ارتكبته المقاومة هو تصديقها (نعم تصديقها) الفريق الآخر، والذي على أساسه حصل التحالف الرباعي السيّئ الذكر.
مرجعية المقاومة تاريخياً لم تكن من السلطة، وهي التي قامت بسبب غياب السلطة. فهل نسي فقهاء السياسة اللبنانية أنه لو كان للبنان نظام دفاعي متماسك وقوي يردع كل من حاول التطاول على الكيان عسكرياً، لانتفت حاجة الشعب لتحمّل مسؤولية أمنه. هذه ليست فكرة نظرية فقط، بل واقع في تاريخ الشعوب. فأمن الناس كان الأولوية قبل التقديمات الاجتماعية، وعلى هذا الأساس نشأت القبيلة لتؤمن الأمن لمجموعة المنضوين إليها. وقد أكّد ذلك المفكّر توماس هوبز عندما حدّد وظيفة الدولة في القرن السابع عشر، واستنتج أن السلطة تحكم ضمن عقد اجتماعي بين الحاكم والمحكوم، وأن أولى وظائفها هي الأمن الذاتي، وبعدها الرخاء الاجتماعي. وبالتالي، فإن السلطة التي لا تؤمن هذه التراتبية في الواجبات تفقد شرعيتها. حتى اليوم كانت شرعيّة أكثر السلطات التي تداولت الحكم في لبنان مشوَّهة لأنها لم تؤمّن حماية للمواطنين. فقط عندما تزاوجت السلطة مع المقاومة أصبحت شرعيّة الطرفين مكتملة، وهذا يعني بالتالي، في غياب إمكانية قيام السلطة بواجبها الأمني، أن شرعيتها القانونية لا تكتمل إلا بشرعية المقاومة الشعبية، والعكس صحيح.
بناءً على كل ما سبق وكل ما جربناه في الأعوام القليلة الماضية، لا يمكن المعارضة التخلّي عن الثلث الضامن، وإلا سنكون أمام تكرار لمأساة التحالف الرباعي... وإن غداً لناظره قريب.