ناهض حتر *ضربة أخرى تلقّاها حزب الله هي الانتفاضة الشعبية الإيرانية. فما إن بدأ الحزب يطبّب جراح الهزيمة الانتخابية في لبنان، حتى تداعى «نموذج» الجمهورية الإسلامية في إيران، وانهار. الضربتان ليستا نتيجة للتآمر الخارجي الهدّام، على رغم أنه حاصل فعلاً بهذا القدر أو ذاك، وليستا نتيجة أخطاء سياسية أو تكتيكية، على رغم أنها حاصلة فعلاً، ولكنهما محصّلة حتمية للفوات الأيديولوجي.
يعاني حزب الله، على الصعيد الفكري، من فقر مدقع مؤسف، يظهر بوضوح محرج بالنظر إلى ما يتمتع به من قوّة جماهيرية ومادية وقتالية. وفي تموز ــــ آب 2006 ، حين قدّم الحزب إنجازه الرئيسي في هزيمة العدوان الإسرائيلي على كل المستويات العسكرية والنفسية والإعلامية، كان قد بلغ ذروة مجده. وفي تلك الذروة، ظهرت من داخله ومن خارجه، أصوات (تبين لاحقاً أنها واهمة) تأمل إعادة بناء الحزب على أسس فكرية تقدمية تأخذ بالاعتبار طابعه الديني، ولكن في منظومة فكرية حديثة ملائمة تقوم على استنباط ما يمكن تسميته بـ«فقه التحرير» وفقاً لنموذج «لاهوت التحرير» في المسيحية المناضلة في أميركا الجنوبية.
وكان من شأن نجاح هذا المشروع الفكري أن يضع حزب الله في قلب حركة التحرر العربية، محققاً اختراقات لا طائفية في لبنان والعراق، ومؤثراً على الحركات الدينية السنية باتجاه تخطي الوهابية والإخوانية والجهادية الإرهابية.
فقه التحرير، في جوهره، انتظام، لا توفيقية انتهازية، بين الثقافة الدينية في تجلياتها الإنسانية الأرفع، ومهمات الثورة التحررية والاجتماعية. من تحرير الأرض من الاحتلال، والدولة من النفوذ الأجنبي والمافيات، إلى تحرير الإنسان من كل شروط الاستغلال والتهميش والفقر والاستبداد والتبعية الطائفية والمذهبية والإثنية. كان يمكن حزب الله أن يغدو حزب الأمة. لكن المشروع طوي في الأدراج، وانتظم حزب الله في السجال السياسي اللبناني من موقع طائفي بامتياز، وفي ظل شعار الشراكة بين المقاومة والبزنس، وبصراحة أكبر بين النفوذ الإيراني والنفوذ الغربي، في مساكنة غير شرعية.
بعد ذلك، ماذا عند حزب الله لكي يقوله للبنانيين والعرب؟ ليس عنده خطاب فاعل سوى ذلك الموجَّه إلى «أشرف الناس» خاصته من الطائفة الشيعية. أنت لا تنال الشرف من موقعك النضالي من أجل تحرير الوطن والمجتمع، بل لكونك شيعياً ومؤيّداً لحزب الله! يمثّل ذلك، بالضبط، تكراراً لخطابات الزعامات السنية والدرزية والمسيحية. الإختراق الجدي الوحيد الذي حققه حزب الله تمثّل في التفاهم مع التيار الوطني الحر. وهو تفاهم ساعد الحزب على تلافي حصار سياسي مميت، لكن إنجازه الرئيس هو أنه منح الحزب تصوّراً عقلانياً لإدماج سلاحه في إطار الاستراتيجية الدفاعية. لكن التيار رأى في ذلك السلاح جناحه العسكري وقوة مدخرة ضد التوطين، بينما سعى هو نفسه، كما خصومه الأساسيون في الدائرة المسيحية، إلى توضيب المسيحيين في طائفة تتبع زعامة واحدة، فيكون للجنرال ميشال عون مكانة وليد جنبلاط عند الدروز أو سعد الحريري عند السنة أو حسن نصر الله عند الشيعة.
في المحصلة، خاض الحزب والتيار معركتهما الكبرى على الأرضية الأيديولوجية للخصم. الهزيمة هنا حتمية. إنها معركة لا تنشد التغيير الاستراتيجي بل إعادة الاصطفافات وتنظيمها، وصولاً إلى تشريع سلاح الطائفة الشيعية وترتيب وحدة الطائفة المسيحية، وبناء «الدولة القوية» على التفاهم الموسع بين الطوائف.
إنها إذاً سياسة تكرار لعبة الكراسي الطائفية المستمرة منذ القرن السابع عشر بلا نهاية. عربياً، يعود لبنان، كما في كل مرة، إلى أدراجه من مركز تنوير إلى كاريكاتور.
ومع اختناق خطاب التغيير في لبنان، أصبح للتدخلات الخارجية والمال السياسي قوة مضاعفة تدعم أيديولوجيا طائفية واجتماعية صريحة للموالاة التي كسبت الجولة بشعار «السماء الزرقاء». وهو شعار يبدو بسيطاً لكنه مكتظ بالمعاني الأيديولوجية: الحفاظ على لبنان التقليدي بنظامه وبنيته وعلاقاته. ومن المعروف أن خطاب المحافظة يكسب دائماً عندما يقابله وهن خطاب التغيير.
هكذا، فإن نصر الله الذي برهن على جدية «الوعد الصادق» بالسلاح، وجد نفسه غير قادر على وعد مماثل في السياسة. فحزب الله يمتلك فكر السلاح ولكنه لا يملك سلاح الفكر.
من الفشل الانتخابي، خرجت قواعد حزب الله مصدومة و«مكتئبة»، لكن الحزب ظل قادراً على إنقاذ الموقف. فبدلاً من التفكير الموجع في فشل المعارضة، جرى التركيز على فوز الحزب، وطُرحت مرة أخرى تسوية السلاح والبزنس، وسط شعور مهدّئ بأن هزيمة المعارضة الانتخابية كانت هبة إلهية جنّبت المقاومة مأزق النصر السياسي الذي لا يزال يخنق «حماس» وجماهيرها، تحت وطأة التحالف الفتحاوي ــــ العربي ــــ الغربي المضاد.
غدت العودة إلى سياسة طوائفية صريحة، الملجأ الوحيد لحزب الله للحفاظ على تماسك قاعدته والسعي إلى تفاهمات مع الخصوم تحرره من عبء المشروع الخاص للعونيين. عودة مريرة إلى داخل الطائفة، فاجأها انفجار النموذج الأيديولوجي في إيران، والخوف من تطورات تؤدي إلى تراجع الدعم المالي والسياسي والتسليحي أو قطعه.
انتظم حزب الله وراء دعاية نظام نجاد القائمة على التعريض بالانتفاضة الشعبية الإيرانية من خلال القول إنها صنيعة الغرب، بل صنيعة موظفين في السفارات الغربية!
من الواضح أن العواصم الأوروبية سعت إلى استغلال الحدث الإيراني لمصالح الغرب الاستعماري كله، بينما قاوم الرئيس الأميركي باراك أوباما ضغوط المحافظين الداخلية، متّبعاً سياسة حذرة للغاية تنأى بواشنطن عن التدخل في الشأن الإيراني، بالنظر إلى أن سياساته الشرق أوسطية مبنية على تفاهم ممكن وضروري مع النظام الإيراني، القائم بنفوذه في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين. لم يرغب أوباما الواقعي بالدخول في مغامرة تجلب له قطيعة عدائية مع طهران أو تجلب نظاماً جديداً في إيران يفكك عناصر نفوذها الإقليمي، ويعيد خلط الأوراق، ويجبره على الرجوع إلى سياسات الإدارة الأميركية الآفلة. الحدث الإيراني لم يكن مصطنعاً حتماً، والقول بذلك هو إهانة للشعب الإيراني وللجمهورية الإسلامية قبل أن يكون إهانة للعقل السليم. وكأن الإيرانيين مجرّد دمى، وكأن الجمهورية من كرتون يستطيع موظف في سفارة أجنبية أن يهزّها! وكأن إيران من خارج الكوكب، فلا تحكمها قوانين الصراعات الاجتماعية والسياسية والثقافية!
من الضروري هنا التذكير بأن نظام الجمهورية الإسلامية في إيران هو نظام قومي ــــ طائفي ــــ شمولي، إذ إن السلطة في الجمهورية التي تضم قوميات أخرى وأدياناً ومذاهب متعددة، محصورة بالفرس الشيعة الإثني عشرية، ومحصورة داخلهم بالحزب السلفي، وداخل الحزب السلفي بالتيار القائل بولاية الفقيه.
وهذه التركيبة وحدها تفتح كل أبواب التناقضات في الجمهورية الإيرانية بين أنصار ولاية الفقيه وأنصار الحكم المدني، وبين أنصار العلمانية وأنصار السلفية، وبين الشيعة والسنة والأديان الأخرى، وبين الفرس والقوميات المضطهَدة، ومنها وأهمها العرب. وهذه التناقضات ملجومة بقوة القمع الدموي، ذلك الذي أتيح للعالم أن يرى مشاهد جهنمية منه إبان قمع الانتفاضة الحزيرانية.
على المستوى الاجتماعي، فإن التسوية القائمة في قلب النظام الإيراني هي ذاتها التسوية بين «المقاومة» والبزنس والفساد. وبينما تفتقر كل أجنحة النظام لأي برنامج اجتماعي تقدمي، كسب نجاد شعبية بين الفقراء والمهمشين عن طريق مساعدات وأعطيات، وما يرافقها من فساد «القائمين عليها»، لا عن طريق برنامج ديموقراطي اجتماعي.
ربما يكون حزب الله قد اطمأن إلى تجاوز الأزمة الإيرانية. ولكن ذلك مجرد وهم، ذلك أن الانتفاضة الحزيرانية، رغم كبحها بالقوة، حققت بالفعل إنجازات دائمة، ومنها:
1ــــ إطاحة فكرة ولاية الفقيه وشرعيتها. فحصانة هذا المندوب الإلهي على الأرض هي كل رأسماله السياسي. وهي حصانة ينفي تحققها بالقوة مضمونها. حصانة لا بد لها من الهيمنة الفكرية لكي تكون وتستمر. لكن الانتفاضة بدّدتها. لم تكن كلمة مرشد الجمهورية هي الكلمة الفصل في الأحداث، عاندها المنتفضون ورفضوها وأطاحوها، وألغوا بالتالي شرعيتها، بينما كانت الكلمة الفصل للشرطة والاستخبارات والمليشيات الدموية. بذلك انزاح عن النظام الاستبدادي الإيراني غطاء الأيديولوجيا، وظهر عارياً.
2ــــ كسر حاجز الرعب. العلمانيون من الفئات الوسطى التي سئمت سيطرة الثقافة القروسطية، نزلوا إلى الشارع، وأعلنوا عن انشقاق المجتمع الإيراني. وهو انشقاق لا يمكن رتقه بالعنف، بل بتسوية تسمح أقله بعلمنة الحياة الاجتماعية وتأكيد التعدّد الثقافي. إنها هزيمة مرّة للسلفية التي لم يبق لديها سوى المليشيات لتأكيد ذاتها في نمط حياة لم يعد ممكناً استمراره إلا بالعنف.
3ــــ فتحت الانتفاضة التي جرت في قلب التكوين الفارسي ــــ الشيعي، الباب أمام حراك جديد للقوميات والأقليات الدينية المضطهَدة، سيظهر لاحقاً في تعبيرات سياسية وثقافية وجماهيرية.
4ــــ أسس الحدث الإيراني، من الانتفاضة وقمعها، لولادة معارضة داخلية واسعة ستنشط الآن في تطوير خطابها والبحث عن حلفاء من أوساط اجتماعية أخرى، مما يعني أن النظام الإيراني المتماسك أصبح من الماضي.
إذا لم يتوقف حزب الله أمام هذه التطورات، فإنه يحكم على نفسه بمستقبل غامض. يمكنه بالطبع أن يقدّم تنازلات متلاحقة للنظام اللبناني، انتهاءً بالانتظام الكامل في صفوفه. وهذا يعني، في النهاية، التموضع في خانة كخانة وليد جنبلاط أو حتى سمير جعجع. ولا أعرف إذا كان يمكنه أن يقوم بمراجعة جذرية لأيديولوجيته الاجتماعية وخطابه السياسي وآليات نضاله، بما يحرّره من الطائفة ومن «النموذج» معاً.
* كاتب وصحافي أردني