عصام العريان *جاءت الهجمة الأمنية الأخيرة على الإخوان المسلمين لتطول أحد أهم رموزهم، الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، الأمين العام لاتحاد الأطباء العرب، ولتعيد السؤال من جديد عن سياسات النظام المصري نحو الإخوان المسلمين. وهذه الهجمات المتتالية لم تنجح قط في الحد من قوة الإخوان ونفوذهم السياسي، وإن كانت تربك خططهم ونشاطهم، وتعرقل تقدمهم ونموهم المجتمعي والاجتماعي.
ارتبطت الهجمات الأمنية على الإخوان المسلمين منذ بدأت، قبل أكثر من ستين عاماً، بظواهر عدة تلفت الانتباه، أركز منها على ظاهرتين:
الأولى، أنها تتم دائماً بقرار سياسي لخدمة أهداف سياسية، ودور الجهاز الأمني هو التنفيذ فقط، وأن كل محاولات إلصاق تهم وجرائم بالإخوان فشلت تماماً ولم تصمد أمام أي جهة قضائية محايدة طبيعية، ويكفي أن يقول القاضي الذي حاكم الإخوان في قضية السيارة الجيب عام 1950، بعد انتهاء المحاكمة وعند بلوغه سن التقاعد «بالأمس حاكمتهم واليوم أنضم إلى صفوفهم».
وعندما حوكمنا عسكرياً عام 1995، وتطرق أحد المحامين إلى مسألة العنف والإرهاب، إذا بالضابط العسكري، وهو برتبة لواء، الذي كان يحاكمنا يقول له: إن الإخوان ليسوا إرهابيين ولا يمارسون العنف.
وعندما قدمت النيابة العامة والعسكرية الإخوان في آخر قضية عسكرية بتهمة غسيل وتبييض الأموال، أسقطت الهيئة العسكرية التهمة أيضاً، ولم تعاقب المتهمين عليها.
يأتي القرار السياسي عندما يفشل النظام الحاكم فى مواجهة الإخوان سياسياً واجتماعياً، ولا يحترم قواعد المنافسة الشريفة على حب الشعب والجماهير. فيلجأ إلى العصا الأمنية الغليظة ليحسم بها الصراع السياسي حسبما يتصور، ولو إلى حين ليكسب مزيداً من الوقت، إذ يدرك في قرارة نفسه أن القضاء على الإخوان أو استئصالهم من المجتمع مستحيل، وليحرم الإخوان من العمل وسط الناس إلى حين.
ويكفي للتدليل على ذلك، أن نظام عبد الناصر بكل شعبيته وقوته وسيطرته، اكتشف بعد عشر سنوات قضاها الإخوان في الزنزانات والمنافي والتشريد والتعذيب، أن هناك تنظيماً جديداً للإخوان ظهر إلى الوجود عام 1965، بعد 11 سنة في السجون، وبعد تعليق قادتهم على أعواد المشانق ومنع أي كلمة عن الإخوان في المجتمع ولو همساً إلا أخبار التعذيب البشع الذي قتل العشرات تحت السياط وفي الجبل.
وعندما عاد الإخوان إلى الحياة من جديد، بعد عشرين سنة، وخروج آخر أخ عام 1975، في عهد السادات، لم تمض سنوات قليلة حتى كان الإخوان على مانشيتات جريدة «الأهرام» عام 1984، عندما نسقوا لخوض الانتخابات مع حزب «الوفد الجديد».
وعندما غاب الإخوان قسراً أو طوعاً عن مجلس الشعب من عام 1990 إلى عام 2000، ومُنع النواب السابقون وقيادات الإخوان من خوض الانتخابات، عاد الإخوان بقوة ليكوّنوا أكبر كتلة برلمانية فى برلمان 2000ــــ2005، ويمثلهم 17 نائباً كانوا أكثر بـ3 نواب من كل نواب أحزاب المعارضة مجتمعين، وزاد تمثيلهم 5 مرات في الانتخابات التالية عام 2005، فبلغ 88 نائباً.
الثانية، أن هذه الهجمات تأتي في سياق سياسي إقليمي أيضاً، وليست انعكاساً لصراع وطني فقط، والسبب هو أن النفوذ الاستعماري لم يرحل عن بلادنا قط، وأن الهيمنة الغربية ما زالت صاحبة الكلمة والنفوذ في كل القضايا الإقليمية، وخاصة القضية الفلسطينية. وقد ترجم ذلك الرئيس السادات عندما أكد أكثر من مرة أن 99% من أوراق اللعبة في يد أميركا، وبرر بذلك انحيازه التام إلى معسكرها، وخروجه من دائرة النفوذ السوفياتي الذي كانت بدايات أفوله ظهرت للعيان. فعندما ظهر أداء كتائب الفدائيين من الإخوان المسلمين وغيرهم في ساحات القتال على أرض فلسطين عام 1948، أعادهم النقراشي باشا إلى مصر مكبلين بالأغلال، مجردين من السلاح إلى معتقلات «الطور» و«هايكستب»، وأصدر قراره المشؤوم بحل جماعة الإخوان، متذرعاً بأسباب وأحداث مضى عليها سنوات، وليتم بعد ذلك رد الفعل المتوقع في الأجواء المشحونة باغتيال النقراشي، ليتم بعدها اغتيال الإمام المؤسس حسن البنا رحمه الله، وهو في ريعان الشباب ولم يتجاوز الـ42 عاماً، ليذهب إلى ربه شهيداً إن شاء الله.
وقد أصدر القضاء المصري قراره بعد سنتين بإلغاء قرار الحل العسكري وعاد الإخوان لدورهم ونشاطهم، وليشاركوا بعد ذلك في التخلص من النظام الملكي، في خطوة كان لها أبعد الأثر في تاريخ مصر كلها، وانعكست سلباً على الإخوان أنفسهم.
وجاء الصدام مع عبد الناصر بعد انحياز الإخوان إلى محمد نجيب، وإصرارهم على عودة الحياة النيابية وإصدار دستور جديد، قدموا بشأنه اقتراحهم. وكان الإخوان وقتها قوة إقليمية في مصر وسوريا والأردن والسودان والعراق، وعلاقتهم طيبة بالسعودية وملكها.
كانت الأجواء الإقليمية تمهد لصدامات وحروب فاشلة مع العدو الصهيوني، وقد أنتجت تلك الحروب منذ 1956 مروراً بـ1967 وانتهاء بـ1973، تمدداً ونفوذاً صهيونياً واضحاً على حساب مصر والعرب. وقد غاب الإخوان المسلمون في غياهب السجون طوال هذه الحروب وعادوا ليجدوا وضعاً إقليمياً مختلفاً تماماً، إلا أن ذلك لم يجعلهم يفقدون بوصلة الاتجاه السليم في الصراع مع العدو الصهيوني والقوة الدولية الداعمة له، فسرعان ما أصبح الإخوان من جديد في قلب الصراع مع العدو، ولم تمض إلا سنوات قليلة لا تزيد على العقدين ليصبح مقر الإخوان قبلة لأطراف فلسطينية ودولية، تريد منهم القبول بما قبلت به النظم العربية من اعتراف بالكيان الدخيل والإقرار بالحلول الاستسلامية.
اليوم يضيف النظام المصري وأجهزته الأمنية القمعية بعداً جديداً على الصدام مع الإخوان وهو البعد الدولي. ولا يدري النظام أو هو يدري أنه بتلك الإضافة، يجعل الإخوان قوة دولية بعدما اقتصر وصفهم من قبل على أنهم قوة وطنية مصرية لها نفوذ إقليمي وامتدادات عربية. وأن تلك القضية ستضفي على الإخوان مهابة كبيرة ونفوذاً أشد، وخاصة أن القضاء على الإخوان واستئصالهم ثبت فشله على مدار 80 سنة من البقاء بفعالية، وأن الإخوان يخرجون من كل محنة أو قضية أصلب عوداً وأمضى عزيمة وأقوى نفوذاً.
إن الحكومات المصرية المتعاقبة منذ ستين عاماً مطالبة باعتذار واضح، ليس للإخوان المسلمين، بل للشعب المصري عن حرمان هذا المجتمع وذلك الشعب من الجهود الدعوية والتنموية والاجتماعية والثقافية لنخبة من أشرف وأخلص من عرفت البلاد، وطنية صادقة وإيمان قوي وعزم فتي، غيبتهم خلف الأسوار وحاصرت نشاطهم وجهودهم ومنعت مصر من قطف ثمار ذلك الجهد الدعوي الذي ينطلق من فهم معتدل ووسطي للإسلام العظيم. وحرمت مصر من أعظم مصادر قوتها الناعمة، وهي أن كبرى الحركات الإسلامية نبتت في مصر وانتشرت منها إلى آفاق الأرض الواسعة.
إلى أخي عبد المنعم أبو الفتوح،
عرفتك منذ سنوات قاربت الأربعين، شاباً مجاهداً لا يخشى في الله لومة لائم... رجلاً بطلاً لا يهاب السجون والمعتقلات وكهلاً نبيلاً لم تثقله السنون ولا الأمراض. وقضيت معك قرابة السنوات الست داخل السجون والمعتقلات، فكنت نعم الأخ والصديق والمؤنس والمعين.
لا تجزع فهي أيام سرعان ما تنقضي، وتخرج إلينا من جديد في صفوف الإخوان المجاهدين.
* قيادي في جماعة الإخوان المسلمين في مصر