في 16 كانون الثاني 2009، اعتصم المئات من طلاب الجامعة الأميركية تضامناً مع غزة. كانوا يحاولون استعادة ماض نشيط وفعّال للجسم الطالبي، من خلال تصعيد الحركة لتتضمن احتجاجاً ضد رفع المصاريف وقلة المنح في مقابل البذخ الذي أظهرته الجامعة في تنصيب رئيسها الجديد، لكنهم فشلوا. في موازاة ذلك، صدر كتاب «حرم جامعي في حالة حرب» لمكرم رباح عن زخم الحركة الطالبية بين 1967 و1975. فماذا حل بها؟
أحمد ضياء
نتجت الحركة الطالبية في الجامعة الأميركية في بيروت من مخاض جو شعبي عربي خرج لتوه من نكبة فلسطين في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي. يومها، بدأت حركة القوميين العرب كناد طالبي إلى أن قرر أعضاؤها يوم تخرج أحد قيادييها، الطالب في كلية الطب جورج حبش، أن يستمروا في النشاط خارج الجامعة، فكانت حركة القوميين العرب والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
بعدها، تطوّرت الحركة في أجواء مواجهة الاستعمار، فشاركت الجامعة في التظاهرات المناوئة لحلف بغداد عام 1955 التي سقط فيها على أسوار الجامعة شهيدها الأول حسن أبو إسماعيل، من الحزب التقدمي الاشتراكي.
وسرعان ما حمل جزء كبير من ناشطي الجامعة الأميركية، لبنانيين وفلسطينيين، قضية الثورة الفلسطينية على أكتافهم، حتى سيّر هؤلاء، في 29 أكتوبر 1969، تظاهرة لتأييد العمل الفدائي انتهت باحتلال أحد مباني الجامعة ورفع أعلام الثورة الفلسطينية عليه، قبل أن يتدخل مناصرو «الانعزالية» بعنف ويجلوا المتظاهرين عن المبنى.
وفي 1971، قررت إدارة الجامعة زيادة المصاريف بنسبة 10%، فنظم الناشطون اعتصاماً مفتوحاً ضد الزيادة، وأيضاً ضد سياسات الجامعة والسياسات الأميركية في المنطقة. اقترحت الجامعة بعض الحلول الوسط، فكان الرد بتصعيد الاعتصام، وسرعان ما كانت مباني الجامعة تسقط تحت سيطرة الطلاب المحتجين، سواء كانوا من التنظيمات المؤيدة للثورة الفلسطينية أو المعادية لها، في سابقة هي الأولى للتعاون بين الطرفين، ووصل الأمر إلى احتلال مكتب عميد كلية الآداب والعلوم (حيث كتبوا على الأجندة الموجودة على مكتبه في الصفحة المخصصة لذلك اليوم «يوم التحرير») ومكتب رئيس الجامعة.
وفي 1974، ونتيجة لرفع مصاريف بنسبة 10% مرة أخرى احتل الطلاب معظم مباني الجامعة وجميع مداخلها، وتم تأسيس إذاعة وتعليق مكبرات الصوت حول بيت رئيس الجامعة، ألقوا من خلالها السلام عليه وعلى زوجته في أكثر أوقات اليوم إزعاجاً! إلا أن إدارة الجامعة نجحت في إنهاء الاعتصام عن طريق قوى الأمن التي اقتحمت الجامعة، وأنهت الاعتصام معتقلةً 61 طالباً، ثم فصلت الإدارة بعدها 103 طلاب، فانتهى الاعتصام، الذي تنتهي المرحلة التي يتناولها كتاب رباح عنده.
لكن الحركة الطالبية لم تنته. ففي أعقاب الحرب الأهلية عادت من جديد وبلغت أوجها في عام 1994 عندما عمدت الجامعة إلى قرار زيادة المصاريف بنسبة 10% مرة أخرى، فولدت وقتها حركة احتجاج بدأت بوقفة على درج المدخل الرئيسي وتصاعدت حتى وصلت لاقتحام المنزل الرسمي لرئيس الجامعة، داخل الحرم الجامعي. سارع السياسيون من خارج الجامعة (ومنهم من كان لديه أبناء في الاعتصام مثل نجاح واكيم) للتوسط، وقد حاولت الأحزاب، وتحديداً حزب الله، لجم الحركة، ربما لحسابات خاصة، أو لعلمهم بأن السلطة تضمر رداً عنيفاً على الاعتصام، إلا أن قوى الأمن استبقت التوسط باقتحام الجامعة وفض الاعتصام بعنف، مما أدى إلى إصابة 25 طالباً بحسب ما تناقله الإعلام. وربما كانت هذه آخر هبة طلابية (حتى الآن) في تاريخ الجامعة الأميركية في بيروت. لماذا؟
توجهنا بهذا السؤال إلى مكرم رباح، الذي أرجع انحسار النشاط الطالبي إلى انحسار محرّكه الأساسي، أي القضية الفلسطينية. فبرأيه، «القضية ما كانت الأقساط، بل فلسطين، لكن الحركة الطالبية كانت مضطرة إلى مواكبة القضايا المطلبية». أما الآن، فـ«القضية ما عادت فلسطين، بل الديموقراطية، حتى في فلسطين نفسها»، كما يقول.
والجامعة النشطة في الستينيات والسبعينيات كانت تواكب عالماً نشطاً، فعام 1968، كان طلاب الأميركية في بيروت يتابعون أحداث الثورة الطلابية في فرنسا والحركة الطلابية الاحتجاجية في الولايات المتحدة كمصدري إلهام، كما يقول رباح. أما الآن، فقد «بطل مبدأ النضال الأممي، وتكرّست فكرة السيادة، ولم يعد بإمكانك أن تقفز من بلد لآخر» كما يؤكد، مضيفاً «لم يعد لديك أيقونات كما في السابق». هذا بالإضافة إلى وجود أمور أخرى تجذب الطلاب بعيداً عن النشاط السياسي كما يقول غامزاً «هناك مسابقة في الشهرة، عمّن يعرف شباناً أكثر ومن يستطيع أن يجذب فتيات أكثر. مش غلط، هذا أيضاً نوع من النشاط».
ويذهب خليل خريباني، مسؤول أنشطة الحزب السوري القومي الاجتماعي في الجامعة خلال العام الماضي، إلى أن هناك ثقافة عامة تغيرت، حيث يرى أننا استوردنا ثقافة «فردية»، يربط بينها وبين الثقافة العامة التي «تجعلك تقاتل لتكسر غيرك وتأخذ مكانه».
وفي الاتجاه ذاته يقول الناشط المستقل سعد الدين الكردي: «على صعيد العالم، خف الإبداع، وغلبت الأفكار المعلبة على الفكر النقدي. بعض الناس لديهم أفكار جيدة، ولكن الجو السائد يصيبهم بالإحباط».
يخبرنا خريباني أن الحزازات بين الأحزاب والتيارات قد أضرّت بالأنشطة، ما يؤكده رضا الموسوي، مسؤول أنشطة حزب الله في الجامعة، الذي يرى أن الجو السياسي المشحون والاصطفاف العنيف في الخارج قد أدّيا إلى تشنجات داخلية شلّت الحركة الطالبية.
إلا أن مكرم رباح لا يرى أن النشاط الحزبي يؤدي بالضرورة للانقسام والتناحر، فالناشط المنتمي حزبياً يستطيع أن يباعد قليلاً بينه وبين خطه الحزبي إن أراد، لأن «الأحزاب لا تتدخل في كل تفاصيل العمل الطلابي. ليس كل الأحزاب على الأقل»، يقول.
أما رضا الموسوي فيختم بطريقة متفائلة قائلاً: «ليس المطلوب أن يتفق بعضنا مع بعض، المهم أن نتفاهم، فالاختلاف لا يعني الخلاف».