أحمد الزعتريلا أحد يعرف أين تسكن زليخة أبو ريشة. لو كان عنوانها معروفاً، لأصبحت باحة منزلها في أبو نصير في ضواحي عمّان البعيدة ساحةً للتظاهر. إلى هذا الحد يهزّ عمودها الذي يُنشر كلَّ ثلاثاء في صحيفة «الغد» الأردنيّة، المزاج المحافظ لمجتمع بأكمله.
تخوض هذه الشاعرة والباحثة في قضايا النسوية والجندر، المعركة وحدها ضد الحجاب والإسلام السياسي والإرهاب الفكري. لم يثنها عن ذلك تهديدات تأتيها عبر الهاتف، أو هتافات خطب الجمعة. هي سليلة عائلة أبو ريشة التي كان يؤمّ زاويتها الصوفيّة في عكَّا في الأربعينيّات أتباع الطريقة الشاذلية اليشرطيّة التي أتى بها جدّها الأكبر الشيخ علي نور الدين اليشرطيّ. هذا الأخير ضرب النوّ سفينته في طريق عودته إلى تونس بعد مجاورة الحرم في مكَّة، وانتهى به المطاف في عكَّا فمكث فيها ونشر طريقته.
جدّها محمد أمين أبو ريشة الذي قدم من سوريا للتجارة، تزوّج إحدى بنات الشيخ نور الدين. جدّتها هذه كانت امرأة متصوفة قوية الشخصية، صالحة وزاهدة، تحوّل منزلها إلى مزار: «يقبّلون يديها ويخرجون من عندها من دون أن يديروا ظهورهم لها». تتذكّر زليخة ولا تنسى إمرار ملاحظة نسويّة: «كان اسمها نجيّة اليشرطيّة... لاحظ أنهم كانوا يؤنثون العائلة».
تقسِّم ــــ كالعادة ــــ حياة الفلسطينيين (أو من عاشوا في فلسطين) إلى قسمين: قبل النكبة وما بعدها. هذا ما حصل لعائلة زليخة ابنة السنوات الست في الـ48، إذ هاجروا إلى رأس الناقورة، ثم إلى دمشق. هناك، في حيّ البحصة القديم، نشأت زليخة في «منزل شاعريّ، مع أرض ديار وليوان وأشجار نارنج وجرنك وياسمين. حتى إن فرعاً لنهر بردى كان يمر بمطبخنا». هناك أيضاً اكتشفت الصبية ولعها بالقراءة خارج الأجواء الصوفيّة، لتلتهم مناظرات عباس محمود العقّاد مع مصطفى صادق الرافعي. «كنتُ أميل إلى الرافعي، لأنّ والدي كان يحبّه، وأعتقد أنني أدين له بلغتي وقلمي اللاذع». بعد ذلك الشحن اليومي من القراءات، كان لا بد لزليخة من أن تكتب. «كنتُ أكتب وأخبئ ما أكتب على من حولي، فإخواني الثلاثة كانوا شعراء، ووالدي كان شاعراً، وعمّي عمر أبو ريشة كان شاعراً معروفاً، لذلك كنتُ أخجل مما أكتب».
انتقلت العائلة في أواخر الخمسينيّات إلى عمّان، ونقلت زليخة شغفها بالأدب معها إلى المدرسة، حيث عرفت أنها ستكون أديبة، ودخلت الجامعة الأردنيّة في 1962 لتتخصص في الأدب العربي. من الشخصيات المؤثرة في حياتها الباحث ناصر الدين الأسد الذي تعلمت من خلاله مبدأ «الإخلاص في الاتّباع». لكنَّها اختطت لنفسها الآن مساراً بعيداً عن منهج الأسد الذي «لا يزال في عباءة التراث ولا يحبُّ من يختلف معه». من يستمع إلى زليخة اليوم تتحدّث عن الأفكار التنويريّة، فسيذهل عندما يعرف أنَّ الكاتبة ـــــ رغم طفولتها الليبراليّة ـــــ عاشت تحوّلاً راديكاليّاً من المحافظة إلى التحرر. من يصدِّق أنَّ المرأة التي تقول الآن: «الحجاب محض خرقةٍ لا تملك بذاتها أن تضرّ أو تنفع، قطعة من ثوب أملتها أصلاً ظروف البيئة الطبيعية من شمس قادحة ورمال ساقية»، هي نفسها زليخة أبو ريشة التي كانت ترتدي الحجاب في الجامعة؟ «كنتُ بالتأكيد الوحيدة التي ارتدته في الجامعة»، تقول. «كان التديّن آنذاك عفويّاً، لكن السبب المباشر في ما نشهده الآن من تنامي التيار الإسلامي هو النكسة، إذ اعتقد الناس أن سبب الهزيمة هو البعد عن الله، فاتَّجهوا للغيب».
اتجهت زليخة بعد تخرُّجها إلى التعليم في مدارس وكالة الغوث وجامعات السعودية و«اليونسكو»، حتى تقاعدها المبكر عام 1997. خلال تلك الفترة، تزوّجت وأنجبت: ربى وغيث. «الزواج كان طامة كبرى في حياتي، فأنا ضدُّ مؤسسة الزواج نفسها، وزوجي لم يكن في وضع يساعد على جعل هذه المؤسسة مختلفة. لم يكن هناك من وقت حتى للتفكير بعد أداء واجباتي الزوجية على الطريقة الإسلاميّة». لكن ذلك كان له أثر إيجابيّ. إذ انخرطت زليخة في قراءة متعمِّقة لكتب الفقه الإسلامي، لتكون قادرة على مناقشة دورها في كونها زوجةً. وذات يوم بدأت تكتب مقالاً أسبوعيّاً في صحيفة «الرأي» الرسميّة، كان ذلك مطلع الثمانينيّات. تصدّت للتيار الإسلامي بقراءة جديدة للإسلام، وكان عليها أن تتوقّع ردود الفعل: هجوم كتَّاب المقالات وخطباء الجوامع، توزيع مناشير تمسّها شخصيّاً، ورسائل شخصيّة تحتوي على ألفاظ بذيئة. عام 1986 كان عام التحرّر، فنشرت أول كتبها «في الزنزانة» وكسرت الخوف وتطلّقت، لتبدأ بإصدار الدواوين الشعريّة، والبحث في قضايا النسويّة والجندر. حصلت على الماجستير من الجامعة الأردنيّة عام 1989، ولم تكمل دراسة الدكتوراه في «إيكستر» في بريطانيا لأنّها شعرت بأنّها واجب. الشعر هو كان اختياراً، وفضاءً للحريّة... فنشرت دواوين «تراشق الخفاء»، و«غجر الماء»، و«تراتيل الكاهنة»، و«وصايا الريش»... وفي قضايا النسوية وضعت مؤلفين أساسيّين: «اللغة الغائبة» و«أنثى اللغة».
لن يكون مستغرباً أن تسمع أحد النقاد أو القراء يصف لغة زليخة بأنها جزلة، لاذعة و... تشبه لغة الرجال. لكنَّ كل ما نعرفه عنها ينبئ بأنها لن تكون سعيدة بالتوصيف الأخير. هي امرأة معتدّة بجمالها، على أهبة ماكياجها وتسريحة شعرها، ترتدي الكثير من الأكسسوارات التي «تخشخش». هل هناك علاقة بين مظهرها وشعرها؟ تجيب: «الجمال مطلب، ونحن نتجمّل بالشعر والحلي والألوان، لا أحب استنساخ البشر، إذ يجب على الشخص أن يعبّر عن مظهره الفنّي. أحبّ أن يكون لي «ستايل» (أسلوب)، شيء ما يشبه جمال وأسلوب الشعر الذي أكتبه وأسعى إليه».
ماذا عن علاقتها الملتبسة بالمدن؟ «عندي ولع بالعثور على المكان، هو هاجس قهريّ للعثور على المكان الأول. ليس لديّ قرية أرجع إليها، أماكني موزعة ومتعدِّدة وبعضها غير موجود على الخريطة. نحن نعمل على تدليل المكان الأول ونمسح عنه الغبار، بينما الأحداث تعبث به ولا يبقى».


5 تواريخ

1942
الولادة في الشويكي (طولكرم) ــــ فلسطين

1948
هاجرت إلى دمشق بعد النكبة

1962
درست الأدب العربي في الجامعة الأردنية، ثمَّ تزوّجت وأنجبت ربى وغيث

1986
نشرت مجموعتها القصصيّة الأولى بعنوان «في الزنزانة»

2009
تعدّ لنشر كتاب ثالث في موضوع اللغة والجندر