تحدثنا سابقاً عن انحسار الحركة الطالبية في الجامعة الأميركية، مقارنة بماضيها الصاخب. اليوم، نستعرض التجارب التي لا تزال تمثّل نقاطاً مضيئة فيها، لتنأى بها عن شبهة الخمول التام
أحمد ضياء
مكرم رباح الذي عرفناه في التحقيق السابق باحثاً ومؤرخاً للحركة الطلابية هو ناشط أيضاً، فقد كان مسؤولاً عن الحزب التقدمي الاشتراكي في الجامعة خلال الفترة التي شهدت «انتفاضة الاستقلال» وما تلاها من أحداث.
يتذكر رباح بكثير من الحنين مرحلة 14 آذار، أو «ثورة الأرز»، حين كان واقفاً عند الجيفينور على بعد أمتار من الجامعة، وكانت الجموع ما زالت تتدفق من البوابة الرئيسية، «تحرّكت كل الجامعة الأميركية، سواء في التظاهرات الأولى أو في تظاهرة 14 آذار نفسها». يرى رباح «انتفاضة الاستقلال» نشاطاً سياسياً ناجحاً شارك فيه، لافتاً بحماسة إلى أن «14 آذار من الإشيا اللي حققناها، ما كنا حزب واحد، نزلت وقتها بطموح إنه بدي بلدي يبقى حر»، مستذكراً تفاصيل الحركة ومختلف المراحل التي مرت بها قبل أن تنضج.
في بداية الأحداث اجتمع اتحاد الطلاب وأصدر بياناً مشتركاً صُوِّت عليه بالأكثرية، وبدأت بعدها عملية الحشد، التي تضمّنت توزيع البيانات والأوشحة الملونة والمرور على الصفوف للدعوة للاعتصام وتوزيع الأعلام، «كان أمراً ممتعاً» يقول مكرم بفرحة واضحة، «كنا نشارك في ثورة. من الممتع أن تشارك في ثورة».
بعدها سُيِّرت المسيرات بين الجامعة و«ساحة الحرية». يحكي رباح كيف كان «يمشي من البوابة الرئيسية إلى ساحة الشهداء» ويحكي لنا كيف كان يسير على رأس التظاهرة حاملاً مكبر الصوت وهاتفاً ضد الرئيس السوري بشار الأسد «الطلاب ما كانوا خايفين، وهيدا شي جديد» يخبرنا مكرم، ويخبرنا أيضاً عن الأرزّ الذي كان يُرَشّ على المتظاهرين من الشرفات «حكومة كرامي استقالت من ورا الضغط الشعبي» يخبرنا مكرم، «صحيح أن القوى العظمى أخرجت سوريا من لبنان، لكن المرأة الختيارة التي كانت تنزل إلى ساحة الشهداء كان لديها نفس تأثير القوى العظمى».
«لكن الثمن كان فادحاً»، يقول رباح بكثير من التأثر، حين يذكر سمير قصير ووليد عيدو، الذي كان يخطب في الشباب في الجامعة يوم 14 آذار 2005 قبل التظاهرة، ويلفت إلى أن صورة سمير القنطار كانت بين الصور التي حملوها في ذلك اليوم. أما سعد الكردي، فقد كان طالباً في عامه الأول، ولم تكن قد تكوّنت لديه بعد هوية سياسية واضحة أو ميل للعمل العام. كان في طريقه إلى الصف حين لمح على يساره موقف الصليب الأحمر في الجامعة، فواصل السير، إلا أنه سرعان ما انعطف بعد بضعة أمتار ليعود صوب الصليب الأحمر ويلتحق به. وكانت هذه بدايته مع العمل الطالبي. أصبح سعد الكردي بعدها ناشطاً مستقلاً، وعمل ضد السيطرة الحزبية على الجامعة، منادياً بـ«المشروع المستقل» الذي خاض أعضاؤه الانتخابات مستقلين والذي ضم أيضاً مجموعة بلا حدود اليسارية، وهو التحالف الذي نجح في الحصول على رئاسة المجلس الطلابي. «لولا هذه البرمة، لربما كنت ستجدني واحداً من الذين يمضون يومهم جالسين عند الكولدج هول من دون أن يفعلوا شيئاً» يقول الكردي.
وفي إطار العمل الطالبي الحزبي، يرى خليل خريباني، مسؤول أنشطة الحزب السوري القومي الاجتماعي في الجامعة خلال العام الماضي، أن الناشطين في الجامعة يضيعون وقتهم في حملات التوعية الكبيرة، فيما الأجدى، في رأيه، هو العمل على الأرض مع الناس، ضارباً المثل بمساعدة العامل في الجامعة في جمع القمامة، أو تنظيم حلقات النقاش التي يكون فيها «أخذ وعطا»، منطلقاً من تجربته الحزبية حيث لا يكتفي الحزب بتوعية الأعضاء، لكنه يقيم أيضاً ما يسمى «حلقة إذاعية» يتناقش الأعضاء خلالها. يرى خليل أن هذا الأمر يكون في الجامعة، لكن ليس بما هو كافٍ، ويذكر حلقات نقاش «قولها عالعالي» التي كانت تعدّها مجموعة من الناشطين برعاية نادي النشاط الطلابي والتي ولدت أثناء نقاش محتدم بعد ندوة عن نهر البارد كان هو من ضمن المشاركين فيها بالإضافة إلى الكردي وكاتب هذه السطور. يومها، امتد النقاش من قاعة ويست هول إلى الباحة الرئيسية. وبينما كان النقاش يحتدم، تذكر أحد الحاضرين الـ«هايد بارك»، النشاط الذي كان بمثابة مساحة مفتوحة للطلاب، فقرر الجميع الجلوس دائرياً في صحن المنطقة الرئيسية للجامعة وإكمال الحديث، في بادرة لإحياء هذا النشاط. خلال الأسبوع التالي قرر الناشط الكردي إحياء هذا النشاط وبدأ توجيه الدعوة إلى الناشطين وللطلاب عامة كي «يقولوها عالعالي»، ودار النقاش لعدة أسابيع عن اللون السياسي لبيروت، وعن العمليات الاستشهادية، وعن حل الدولة الواحدة، لكن بعد فترة بدأ الزخم يخف، إلى أن وقعت أحداث 7 أيار، فاتصلت الإدارة بعدها بالكردي وطلبت منه التوقف عن الدعوة لحلقات النقاش تلك بسبب حساسية الوضع السياسي في البلد، فاقتنع سعد، وتوقف النشاط.
إذاً، لم تخفت الحركة الطالبية تماماً في الأميركية، ولا يزال النبض الشبابي يتدفق بين طلابها، رغم غلبة الفردية على اهتماماتهم، وفي ربوعها، متجسداً عبر حالات متفرقة، ولو أنها لم تتوصل إلى حشد العدد الكافي من الطلاب وسط الاصطفافات الحادة الحالية والشحن الذي لا يتوقف وغياب القضايا المركزية التي تجذب الطلاب عادة بعدما اختلف الأقطاب المحليون والدوليون حولها. لم تمت الحركة الطالبية تماماً، لكن ربما الزمن تغيّر.


وظلت فلسطين القضية المركزية

يعترف الناشطون بأن فلسطين لا تزال المحرك الأقوى للحركة الطالبية. إذ ظل التضامن مع غزة جامعهم الأوحد، والنشاط الأحب إليهم، كما قالوا. سعد الكردي وصفه بأنه «عزيز على قلبه»، أما رضا الموسوي، مسؤول حزب الله في الجامعة، فقد كان سعيداً بالتفاف الجميع حوله، فيما يؤكد خليل خريباني أهميته رغم «بعض الخلل في التنفيذ». إذاً تظل فلسطين هي المحور، بحراك قضيتها يتحرك الطلاب، وبتشتتها يتشتتون.