وائل عبد الفتاح


لإرسال رسالة الى المحرر، انقر هنا

الهويات تتعارك. الشعوب في المنطقة العربية يئست من واقعها وارتضت القسمة مع الأنظمة. الشعوب تبحث عن هوياتها المتعالية والخالدة والمطلقة، بينما تصادر الأنظمة الدولة الحديثة (أو ما يشبهها) إلى الأبد. جماهير كرة القدم في مصر والجزائر تعيش حالة منافسة هستيرية على بطاقة الوصول إلى كأس العالم. المعركة بين الجماهير تصل أحياناً إلى الهوس الأعمى. والحوارات في مواقع الإنترنت المفتوحة قذائف صاروخية عادية، لكنها تعرج من الفريق الرياضي إلى البلد، ومن البلد إلى حرب هويات. هنا يظهر الحكماء. يذكّرون الفريقين: كيف يتعارك المسلمون؟ الكرة ستجعل المسلمين يتخاصمون. وتنتهي قائمة اللوم بإشارة تحذير «الإسلام فعلاً في خطر». العروبة طبعاً تأخذ نصيباً أقل. فجمهورها لم يعد كما كان في الخمسينيات والستينيات، لكنها تطرح على سبيل تذكارات المحاربين القدامى. الأسى على حال العروبة والإسلام هو المحطة التي تشتعل عندها النرجسية الجريحة.
هنا تشتعل حماسة الجمهور وتخرج صرخات مشروخة وبكاء وتشنّج، بالضبط مثل احتفالات طقسية يمارس فيها العنف على الذات باستمتاع شديد.
الجمهور المجروح يجد من يقوده. صحافة تطلق مسمّى «شهيدة الحجاب» على فتاة مصرية قتلها متعصّب ألماني لأن الحجاب يستفزّه. القصة تحولت إلى مانشيتات لا ينقصها الأسى، وشحنات تنتقل عبر التسمية الملتبسة لتصنع حالة تعصب مضاد.
القاتل متعصّب. ضد مفاهيم الإنسانية. وهناك وعي يريد أن يخرج الجانب المتعصّب من القتيلة. يستسهل دور ضحيّة الهوية المضطهدة بدلاً من مواجهة العنصرية التي قادت الرجل المهووس بنقاء بلاده من ديانات وثقافات مختلفة. وتستثيره رموزها في الأزياء، وحاول أن يخلعه عنها أكثر من مرة. الرجل ابن ثقافة النقاء والهوية المتعالية على بقية الهويات. ولا فرق بينه وبين الجماعات التي قتلت السياح في الأقصر (جنوب مصر) وغيرها قبل وبعد ١٩٩٦. قتلتهم لأنهم «أجانب» يرتدون ثياباً مثيرة. العقل المحارب نفسه من أجل هوية قاتلة.
الوعي المقلوب يقود. يفرغ القضايا من معانيها الحديثة. يثير بها جمهوراً جائعاً للصراخ والتفاني والانتحار (المعنوي والمادي) من أجل هويته المجروحة. وهذا مريح لأنظمة ارتضت القسمة. الشعب يفرغ طاقاته في التعصّب. والأنظمة في معركة البقاء تلعب مرة باسم الدول الحديثة، وترسل مرات برقيات العزاء والمواساة في الحروب على الهوية.
كل طرف معزول. الجماهير في غوغائيّتها، والأنظمة في هوسها بالخلود، بينهما شعرة رفيعة جداً تضغط بها الشعوب باسم الهوية (الإسلام غالباً)، وتدغدغ بها الأنظمة العواطف الدينية (الإسلامية غالباً).
هكذا يتحول الهوس إلى برنامج سياسي. تستفيد الأنظمة من حالة التحفّز لمصلحتها تماماً. والحكام الذين تقاذفوا الأطباق في مؤتمرات القمة يدافعون عن «الوحدة» ويتحولون من لعن العروبة إلى التغنّي بها. وعندما واجه الرئيس علي عبد الله صالح ونظامه خطر تقسيم اليمن، لم يردّ بتصحيح الأداء السياسي، بل بحملات الدفاع عن وحدة اليمن وعروبتها.
والأنظمة التي شحنت شعوبها ضد الخطر الإيراني والشيعي، تناست كل ذلك وتحمّست لفكرة أن تمرّد الشباب بعد انتخابات الرئاسة لم يكن سوى «مؤامرة» غربية وإسرائيلية. لم يكن هذا رأي الأنظمة فقط، لكنّ محللين أقرب إلى المعارضة لم يروا في ما حدث في إيران سوى «المؤامرة»، وترسّخت الفكرة الخطيرة «الديموقراطية مؤامرة غربية».
هكذا أيضاً كان الموقف عجيباً عندما طرح نتنياهو شرط الاعتراف بيهودية الدولة (إسرائيل) قبل العودة إلى التسوية. لم يردّ أحد بأن هذه أفكار قديمة أو عنصرية أو متخلّفة، لكن بحث العرب والمسلمون في متاحفهم السياسية عن أفكار ومواقف من الوعاء نفسه الذي أخرج منه نتنياهو قنبلته.
لكنّ الفارق هنا أن لدى إسرائيل تنوّعاتها. لديها سياسيون يرتدون أزياء العقلاء، ويلعبون في الفراغات كما يفعل بيريز في زيارته للقاهرة عندما يقدم جانباً آخر من إسرائيل. لديه مرونة ويسأل عما لدى العرب ليقدّموه في مقابل «تراجعات» إسرائيل.
هنا تتفوّق إسرائيل، لأنها تلعب على المناطق الضعيفة عند العرب. تلعب في السياسة. ويحرّض «بيبي» جماهير الهوية. ثم يأتي بيريز لتضميد جراح الأنظمة التي يعرف أن «تطمين الجيران» هو سرّ استمرارها.
ترضي إسرائيل الطرفين. كلاهما يعيش بصادراتها (العنصرية والحكيمة). وكلاهما يستمد قوته من وجودها. ماذا سيفعل العرب إذا اختفت إسرائيل؟ ما هي اللحظة (أو الحال) التي يعلن فيها العرب نهاية الصراع مع إسرائيل؟
هل يمكن التفكير بعيداً عن عنصرية تريد حرباً أبدية بين العرب واليهود، وحكمة واهية تريد تفاوضاً لا ينتهي إلى شيء؟
هل يمكن التفكير في إطار اتساع سوق العنصرية ورواج حالها بديلاً من الحياة؟ الحياة لم تعد لها قيمة إلا في التعصّب للذات المعذبة والمضطهدة.