حسام كنفاني


لإرسال رسالة الى المحرر، انقر هنا

كأن الإجراءات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية غير كافية لتقطيع أوصال الأرض ومعها القضية بملفاتها الأساسية والفرعية، ليأتي أهل القضيّة عليها بمزيد من التقسيم والتأزيم، لتفرّخ قضايا وقضايا تضع فلسطين على مائدة البيع بالتجزئة. تجزئة تبدأ من التفاوض ولا تنتهي عند انقسام «فتح» و«حماس»، لتطرق أبواب «فتح» وغيرها من الفصائل، التي من المفتروض أن تكون مهمهتا إبقاء فلسطين وملفات مأساتها رزمة واحدة.
مساومات إسرائيلية لا تنتهي وتساوق فلسطيني وعربي معها، والأهم غطاء أميركي بخطط ومؤتمرات ترويجية، أوصلت إلى بازار التقديمات، التي ينوي العرب القيام بها. بازار يبدأ بالمستوطنات، التي نجح بنيامين نتنياهو في جعلها قضية مركزية تتقدّم على ما سواها من ملفات المفاوضات، التي درج على تناولها في المباحثات الماراتونية في السنوات السابقة. المستوطنات باتت أهم من الحدود والقدس واللاجئين، وها هو يعرضها للبيع على أنها إنجاز، رغم أنها كانت تحصيل حاصل في كامب ديفيد الثاني وطابا وحتى أنابوليس، إذ لم تكن تحظى بهذا القدر من الاهتمام والتجييش الدولي إلى حد أن الإدارة الأميركية تخصّص لها خطة خاصة تهدف فقط إلى إقناع الحكومة الإسرائيلية بتجميد البناء في المستوطنات.
نتنياهو نجح في تبديل الأولويات، وها هو يستعد لبيع العرب ملف الاستيطان وحده لنيل الثمن. الثمن تعد له الإدارة الأميركية ولّمحت إليه التقارير الصحافية، ومرّ عابراً في اجتماع وزراء الخارجيّة العرب، الذين أشاروا إلى «اتخاذ ما يلزم من خطوات» لدعم تحرك الرئيس الأميركي باراك أوباما «لتحقيق السلام الشامل وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة وعاصمتها القدس الشرقية». «خطوات» يريدها أوباما تطبيعية، وهناك من هو مستعد لمجاراته في رغباته، على الأقل في فتح الأجواء أمام الطائرات الإسرائيلية أو إعادة فتح الممثليات والمكاتب التجارية الإسرائيلية، التي كانت قائمة في بعض الدول العربية قبل الانتفاضة الثانية وعدوان السور الواقي وأخيراً عدوان «الرصاص المصهور»، الذي أغلقت قطر بعده آخر مكتب تجاري إسرائيلي علني في الدول العربية، باستثناء السفارتين في القاهرة وعمّان.
تقارير صحافية كثيرة تحدّثت عن الرغبة الأميركية، حتى إنها سمّت مجموعة من الدول الخليجية والمغاربية. تقارير تستمدّ صدقيتها من عدم خروج أي نفي عربي لنيّات «حسن النيات» المعتزم تقديمها على مذبح خطط أوباما. خطط تبدأ بالتطبيع دون مقابل، على اعتبار أن المقابل الإسرائيلي يقتصر على تجميد الاستيطان، فمن المؤكّد أن للإخلاء ثمناً آخر. فنتنياهو ومعه أوباما، وبرضى عربي، ماضٍ باتجاه تكريس واقع تفاوضي جديد عنوانه «الدفع مسبقاً»، وتحويل متفرعات ملفات القضية الفلسطينية إلى ملفات بحد ذاتها تستخدمها في المساومات وبازارات البيع بالتجزئة.
البازار الإسرائيلي لبيع فلسطين، ليس وحيداً على الساحة، بل توازيه بازارات فلسطينية داخلية تتنافس على بيع وشراء الفتات أو ما تبقى من الأرض والسلطة. بازار الانقسام بين «فتح» و«حماس» هو الأشهر داخليّاً، غير أن له نظراء في أماكن عدة، أبرزها في «فتح» و«الجهاد الإسلامي»، غير أن تأثيرات الانقسام الأساسي على القضيّة الفلسطينية، لا تقل عن التأثيرات الإسرائيلية، على الأقل في المستوى السياسي وشكل أي دولة فلسطينية من المرتقب أن تظهر إلى الوجود. فإذا كان نتنياهو بشروطه قد أفرغ الدولة من مضمونها، فإن شروط الحوار الفلسطيني التي تظهر يوماً بعد يوم تتكفل بتقطيع أوصال الدولة جغرافيّاً وسياسيّاً.
فبعدما كان الحديث عن حكومة وحدة وطنية، انتقل إلى لجنة تنسيق كونفدرالية بين الضفة الغربية وقطاع غزّة. لجنة كان من المفترض أن تكون مؤقّتة، غير أن أحدث اقتراحات نواب «حماس» في الضفة الغربية طلبت تقسيم «الكل الفلسطيني» إلى ثلاثة أقاليم (غزة والضفة والخارج). صيغة نهائية للحكم الكونفدرالي لا تقتصر على موعد الانتخابات التشريعية والرئاسيّة، لتعطي شكلاً مسبقاً للحكم الفلسطيني ينسجم مع ما تعده الحكومة الإسرائيلية: جزر جغرافية مع شبه تنسيق سياسي في العموميات.
اقتراحات وصيغ تكملها الانقسامات داخل حركة «فتح»، إذا صدقت التهديدات التي يطلقها أمين سرّ اللجنة المركزيّة للحركة، فاروق القدومي، بعقد مؤتمر موازٍ للمؤتمر السادس لحركة «فتح»، الذي ينوي الرئيس محمود عباس عقده في بيت لحم في الرابع من الشهر المقبل. اللافت أن حركة الاحتجاج على نيّات عباس تتخطى قادة «فتح» في الخارج، لتصل إلى أقاليم في الضفة الغربية وقطاع غزّة.
وإذا جرى التسليم بأن «فتح» ستكون «الحزب الحاكم» في الضفة الغربية، وفق الصيغ الكونفدرالية المقترحة، فإنها لن تكون حاكمة بتفويض مطلق، وقد تشهد تمرّد أقاليم «ضفّاوية» على سلطتها. يضاف إلى ذلك التمرّد المسبق الذي أعلنته ثمانية من فصائل منظمة التحرير على أي اتفاق «إنهاء انقسام» يوقّع بالصيغة المطروحة حالياً.
مشهد عام، من مفاوضات التسوية إلى محادثات إنهاء الانقسام، يوضح الصورة التقسيمية للقضية الفلسطينية، أرضاً وشعباً وحكماً. ففي بازار البيع بالتجزئة تخسر فلسطين وتربح الحسابات الإسرائيلية... والفصائليّة.