كمال خلف الطويل *في الأول من أيار / مايو 1980، توجّه حجة الإسلام علي خامنئي، أحد قادة الحزب الجمهوري الإسلامي إلى القنصلية الأميركية في تبريز، حيث احتجاز الملحق العسكري الأميركي الكولونيل تشارلز سكوت.
طلب خامنئي من سكوت التعاون من أجل إمرار صفقة إطلاق الرهائن الأميركيين ـــــ وهو أحدهم ـــــ في عهد الرئيس كارتر، ولا سيّما بعد فشل الغارة الأميركية لتخليصهم في نيسان / أبريل.
لم يكن عند سكوت إلا ظنّه أنّ الآبار مسمّمة وتحتاج إلى مرور بعض الوقت. مرّت شهور الصيف دون كثير حراك في موضوع الرهائن رغم توسط العديد أو محاولة واشنطن ـــــ بالأحرى ـــــ توسيطهم (ومنهم الأستاذ هيكل).
في أيلول / سبتمبر، بدأ تحرك على مسار آخر تماماً. كان كارتر يترنح تحت وطأة الأزمة الاقتصادية الحادة، ويرتب لتحريض العراق على شن الحرب على إيران، ويعاني منافسة إدوارد كينيدي له على ترشيح الحزب الديموقراطي، ويسعى جاهداً لاستنزاف السوفيات في أوحال أفغانستان. ذاك المسار كان سعي اليمين الجمهوري للمؤسسة الأميركية الحاكمة إلى منع كارتر من النجاح في إطلاق الرهائن كي لا يكون ورقة رابحة في انتخابات الرئاسة أوائل تشرين الثاني / نوفمبر.
ما الذي جرى؟ عرفت وكالة الاستخبارات المركزية أن فريقاً مؤثراً في نظام طهران هو على درجة فائقة من البراغماتية سمحت له بأن يقبل عرض مناحيم بيغن في أيار / مايو 80 بتزويد إيران بقطع غيار طائراتها الحربية (الذي نال موافقة واشنطن المسبقة)، وأن نواته الصلبة تتألف من هاشمي رفسنجاني رئيس مجلس الشورى ومهدي كروبي أحد أقطاب حزب النظام، وآخرين.
في تشرين الأول / أكتوبر 80، توجه جورج بوش، المرشح لنائب الرئيس ومدير الوكالة الأسبق مصحوباً بوليام كيسي، مدير الحملة الانتخابية ومدير الوكالة المقبل، إلى باريس للاجتماع بمهدي كروبي مبعوث الفريق النافذ في طهران. توصل الطرفان إلى الاتفاق على موعد وترتيبات إطلاق الرهائن بحيث تجري لحظة أداء رونالد ريغن اليمين.
أقنع رفسنجاني الخميني بتفضيل الصفقة مع الجمهوريين لما سلف من أسباب، فيما بقي خامنئي على موقفه غير المحبذ لذلك المسار، بل كان معارضاً للتسلح من إسرائيل قبل الحرب مع العراق وأثناءها، لكن الخميني أفتى بضرورتها على قاعدة أنها لحظة عابرة لا مفر من اقتناصها، لا سابقة يُقاس عليها. كانت صفقة كانون الثاني / يناير 81 تكتيكيةً الطابع وشملت تنازلات مالية، وتعهداً أميركياً بعدم التدخل في الداخل الإيراني (وهو ما لم تلتزم به واشنطن) وتسليحاً إسرائيلياً مقابل الرهائن.
واظبت واشنطن على تكتيف طهران تسليحياً عبر العالم ـــــ باستثناء قناة التنقيط الإسرائيلية ـــــ مع تزويد بغداد بالمعلومات الاسـتخبارية عن القوات الإيرانية طيلة أعوام الحرب ـــــ باستثناء قصة الفاو مطلع 86.
ردّت طهران برعاية إنشاء حزب الله 82/83، وبتدمير السفارة الأميركية في بيروت في نيسان / أبريل 83، وقُتل 11 من أفضل عناصر الوكالة في الشرق الأوسط وعلى رأسهم كبيرهم روبرت إيمز، ثم بتدمير مقر المارينز في ت1 / أكتوبر 83 وقتل 241 جندياً، ثم باختطاف وقتل وليم باكلي مدير محطة الوكالة في آذار / مارس 84، مسبوقاً باغتيال مالكولم كير، مدير الجامعة الأميركية في بيروت في كانون الثاني / يناير 84، ثم ما تلاها من موجة اختطاف لعديد من الأميركيين في بيروت طيلة عامي 84 و85 . أرادت واشنطن مع فشل هجومات كربلاء ـــــ 1/82 و 2/83 و 3/84 و 4/85 على العراق أن تعزّز من قدرات إيران على مواصلة الهجوم وإطالة أمد الحرب وتخليص رهائنها في ذات الحين فأرسلت إلى طهران ـــــ عبر عميلي الوكالة منصور غوربانيفار وعدنان خاشقجي (مدلول دوره في الصفقة أن آل سعود غاصوا حتى الركب في السعي إلى إطالة أمد الحرب)، وعبر عميل الموساد يعقوب نمرودي ـــــ أنها جاهزة لتزويدها بصواريخ «تاو» المضادة للدبابات بأمل تمكينها من تحييد دور الدروع العراقية في صد الهجومات الإيرانية.
ما كان مفاجئاً أن الفريق المفاوض للأميركيين هو مجموع هاشمي رفسنجاني ومير حسين موسوي رئيس الوزراء وصديق غورباينفار عبر مساعده محسن ـــــ ومهدي كروبي، فيما نأى خامنئي بنفسه عن كل تلك القصة.
بلغ الأمر أن طار روبرت ماكفرلين مستشار ريغن للأمن القومي لطهران في أيار / مايو 86 حاملاً معه أول شحنة من «التاو» على الحساب ومنسِّقاً مع رفسنجاني جدول الإرساليات اللاحقة.
ولدوافع صراع داخلي على السلطة بين نائب الإمام ـــــ حينها ـــــ حسين منتظري وبين رفسنجاني، قام صهر الأول مهدي هاشمي ـــــ مسؤول مكتب حركات التحرر ـــــ بتسريب خبر الصفقة السيئة السمعة إلى مجلة «الشراع» اللبنانية في ت2 86.
دفع الاثنان الثمن بإعدام مهدي عام 87 وبعزل منتظري مطلع 89.
دلالة ما سلف هي أن جذور التباين بين فصائل النظام لجهة العلاقة مع الغرب وإسرائيل، تعود إلى أيامه الأولى، لا لأن فريق رفسنجاني موسوم بعمالة أو ارتباط خفي، بل لأن انتهازيته ونفعيته ومصالحه تتوسم علاقة وظيفية مريحة مع الغرب، تتميز عن الشاه في الأسلوب والطريقة وتتقاطع معه في الأهداف والمنى: إيران قوية إقليمياً ومستقلة في قرارها، ولكن متوائمة مع مقاصد الولايات المتحدة في القريب والبعيد ونائية عن مخالفتها فيما تُعزّ وتبغي. الفريق ذاته طفا الآن على سطح المؤسسة الإيرانية الحاكمة شاهراً طلاقه البائن مع مؤسسة الأمن القومي والجيل القيادي الثاني والمرشد الراعي لهما. نسّق مع مقرن آل سعود ومع ليون بانيتا ـــــ عبر مدير محطة الوكالة بدبي ـــــ ترتيبات إشعال ثورة ملوّنة تتزامن مع انتخابات الرئاسة، يمهد لها خطاب أوباما الموجه إلى الأمة الإيرانية والمدغدغ للمؤسسة الإيرانية الحاكمة بغرض التخدير، ثم ترشيح موسوي ـــــ الغائب منذ عقدين ـــــ لتشابهه مع نجاد في سمعة النزاهة وعلى خلفية اقتداره كرئيس للحكومة خلال ثمانينات الحرب، مصحوباً بترشيح كروبي ورضائي لاجتذاب أصوات عن طريق نجاد من طرفي المحافظين والإصلاحيين وبالتالي تدعيم فرصة موسوي، فإن فاز كان بها، وإن لم يفز فالرفض هو السبيل.
أُعدّت أحدث وسائل الحرب العنكبوتية لتدخل الحرب دفعة واحدة من الخارج بهدف تحريض الداخل وتأليبه على النظام، وأُطلقت فرق تخريب من جند الله البلوشيين وحزب السعادة الكردستاني ومجاهدي خلق لتعبث بشوارع المدن الكبرى وطهران بالذات، بل وسعت الوكالة لوضع عمال النقل والنفط وتجار البازار على سكة الإضراب العام مستخدمة ميزانيتها الضخمة المخصصة لزعزعة النظام بـ 400 مليون دولار سنوياً فشلت الثورة الناعمة وفشل فريق رفسنجاني، وبقي أن يتساقط أقطابه واحداً إثر الآخر، وبأيديهم لا بيد خامنئي.
* كاتب عربي