تموز بأول وصولو حرائق على طولو»، عبارة بات يرددها أصحاب الأراضي المحترقة التي زادت عن 200 هكتار منذ بداية موسم الحرائق لعام 2009، وكان آخرها 600 حريق ناتجة من رياح جافة غير معتادة في الصيف اندلعت بظرف أيام ثلاثة
بسام القنطار
كالعادة تدعي أجهزة الدولة المعنية، لا سيما الدفاع المدني، أن الحرائق التي تحيل غابات لبنان رماداً مفتعلة. وتربط بين هذا الاتهام وتوقيت اندلاع معظم الحرائق في وقت محدد. وفيما لم يقدم أي مفتعل لهذة الحرائق أمام العدالة، يبدو أن أسباب معظمها تعود إلى ظواهر مناخية متطرفة، وأن كثافة اندلاعها مع بداية فصل الصيف يرتبط بوضوح بتغير المناخ الواضح عبر ارتفاع في درجة الحرارة مع هبوب رياح ساخنة، الأمر الذي يمثّل بيئة نموذجية للحرائق.
وإذا كانت ظاهرة الارتفاع الشديد لدرجة الحرارة ليست جديدة، فإن الجديد هذا العام، وخصوصاً في 30 حزيران، و1 و2 تموز الجاري، أن الرياح الجافة التي من المفترض أن تهب في فصل الخريف، هبت مطلع تموز وبات الأمر سمة مناخية بارزة خلال فصل الصيف، وبسرعة عالية سببت تفاقم رقعة الحريق وانتشارها.
إزاء هذا الواقع، يصبح من العبث التبشير بقدرة الطيارين اللبنانيين على قيادة طوافات «السيكورسكي» الجديدة، وسط عودة الوزراء والمديرين العامين المعنيين إلى تبادل الاتهامات في مقدار تحمل المسؤوليات، ما لم تُطوّر شبكة حديثة تعطي توقعات أولية عن خطر نشوب الحرائق، إضافة إلى تركيب أجهزة إنذار مبكر.
وتوصي «الاستراتيجية الوطنية لإدراة حرائق الغابات في لبنان» التي تبنّاها مجلس الوزراء الشهر الماضي، باستخدام بيانات التوقعات الجوّية المناخيّة لتجهيز وسائل المكافحة والإخماد مسبقاً. كما توصي ببذل الجهود اللازمة في سبيل إعداد محطات جوية تسجل درجات الحرارة ونسبة الرطوبة ومعدل سرعة الرياح واتجاهها.
ويشير مدير برنامج الأبحاث والتطوير في جمعية الثروة الحرجية والتنمية، جورج متري، إلى أن لبنان يجب أن يتمثل بتجارب العديد من الدول المتوسطية التي بنت شبكات رصد وكشف وطنية استناداً إلى محطات ثابتة ومتحركة.
وتولي الاستراتيجية التي شارك متري في وضعها، أهمية كبيرة لأنظمة قياس الخطر وتصنفها بأنها من العناصر الضرورية في عملية إدارة الحرائق، وهي تتطلب تعاوناً دقيقاً مع مصلحة الأرصاد الجوية، فضلاً عن إعداد نماذج ومؤشرات لمختلف أنماط سلوك الحرائق. كما توصي الاستراتيجية بضرورة توفير المعلومات الجوّية اللازمة لتطوير مؤشرات الخطر المستندة إلى تحليل التوقعات المناخية المحلية عبر سنوات عدة.
ويشير متري إلى أنّ جمعية الثروة الحرجية تعمل بالتعاون مع الجامعة الأميركية في بيروت على إنجاز مشروع لرصد الحرائق والتنبؤ بحدوثها. الأستاذ المساعد في كلية الهندسة في الجامعة الدكتور عماد الحاج الذي يشرف على تنفيذ المشروع أكد لـ«الأخبار» أن الجامعة «نجحت في تطوير برنامج تقني يساعد في التنبؤ بحدوث حريق». ويعمل هذا البرنامج عن طريق التشبيك مع محطات الأرصاد الجوية التابعة لمصلحة الأبحاث العلمية الزراعية، وهو حالياً يتصل بأربع محطات رئيسية في الفنار وصور والعبدة وتل عمارة، على أن يوصَل مع بقية محطات الرصد الموجودة التي يصل عددها إلى 40 محطة.
وتزوّد هذه المحطات البرنامج بمعطيات مناخية من حرارة الطقس إلى الرطوبة وسرعة الرياح وغيرها، وفور ورود المعلومات يجري إدخالها إلى قاعدة البيانات الرئيسية وتحليلها مع معطيات اليوم نفسه في السنوات الخمس السابقة، بما يسمح بتوقع حدوث حرائق في مناطق معينة في اليوم نفسه، كما يقدم جدول توقعات لشهر كامل.
ويشير الحاج إلى أن البرنامج لا يزال في طور الاختبار، لكنه توقع أن يبدأ بتقديم المعلومات الرسمية إلى الجهات المعنية في غضون شهر.
وبقدر ما يبدو هذا المشروع علمياً وطموحاً، إلا أن الحاج لم يوضح شبهه بمشروع مماثل ينفّذه فرع الري والأرصاد التابع لمصلحة الأبحاث العلمية الزراعية عبر الاستعانة بخبراء إسبان.
ولقد نظمت المصلحة مطلع شهر أيار الماضي ندوة في بيروت طرحت آلية عمل شبكة محطات الأرصاد الجوية التابع لها، التي من المفترض أن تعطي المؤشرات الأولوية على خطر حدوث حرائق، ووضعها بتصرف المعنيين والمسؤولين عن عمليات الإطفاء.
ويشير الحاج إلى أن البرنامج الذي يطرحه الخبراء الإسبان معقد، فيما النظام الذي طورته الجامعة الأميركية أسهل وأكثر مرونة، لكن هامش الخطأ في كل الحالات يبقى واسعاً، وخصوصاً في حال حدوث ظواهر مناخية غير عادية.
وفيما تعذر الاتصال برئيس المصلحة الدكتور ميشال افرام أو بأحد معاونيه للاستفسار عن هذا الموضوع، يبدو واضحاً أن هناك سباقاً بين الطرفين للقول إنها الجهة الصالحة لتقديم المؤشرات، التي لا يبدو أنها ستكون بمتناول الجهات المعنية في الوقت القريب.
الجزء الآخر من المشروع الذي يطمح الحاج إلى أن يبصر النور في العام المقبل، لا يزال في طور البحث المخبري، ويهدف إلى إنتاج جهاز إنذار فائق الحساسية يسمح بقياس الدخان المتصاعد في الغابة، إضافة إلى قياس انبعاثات أوكسيد الكربون وثاني أوكسيد الكربون وغاز الميثان. ويجزم الحاج بأن هذا الجهاز لا مثيل له في العالم، وفي حال نجاحه فإنه يتوقع أن يصبح منتجاً تجارياً عالمياً.
وفيما رفض الحاج تحديد قدرة هذا الجهاز قبل اختباره في الطبيعة، أشار إلى أنه بقدر ما يوضع عدد كبير من الأجهزة ضمن الهكتار الواحد بقدر ما يساعد على توجيه إنذار مبكر لحدوث الحرائق. ولفت الحاج إلى أن قياس غاز الميثان مهم جداً. وخصوصاً بعد تساقط الأمطار في بداية فصل الخريف، حيث ترتفع نسبة تبخر هذا الغاز من الأوراق اليابسة بعد تعرضها لأشعة الشمس. وفيما يعتقد المزارعون أن رطوبة الأرض تخفف من احتمال حدوث حرائق، فإن تبخر غاز الميثان يجعل هذا الاحتمال عالياً جداً.
ويشكو الحاج من نقص في التمويل يواجهه هذا المشروع، برغم الملايين التي صرفت على التدريب وشراء المعدات من الخارج. وعادة تشترط الجهات المانحة، وخصوصاً الأميركية والأوروبية، أن تُشترى المعدات والتقنيات من دولها، ولا تحبذ تمويل أبحاث علمية قد تسهم في جعل الدول النامية ممتلكة للقدرات.
ورغم التفاؤل الكبير بقدرة أجهزة الرصد والإنذار المبكر في مكافحة الحرائق، لا تحول هذه الأنظمة التقنية دون اعتماد وسائل المراقبة الأرضية التي تعتمد على تقنيين ذوي خبرة عالية على المستوى الميداني، إذ إن العنصر البشري لا يزال محور حركة أعمال المراقبة والرصد.
ما زال استخدام أبراج المراقبة عنصراً رئيسياً واسع الانتشار في بلدان عدة، فيما تعتبر الدوريات الميدانية القائمة على خبراء ميدانيين عاملاً متمماً لحركة المراقبة والرصد. وفي بعض الأحيان، يمكن عمليات التقييم الميدانية أن تتكامل مع استخدام نظم الأشعة ما تحت الحمراء، ومن الجدير ذكره أن السكان المحليين هم أول من يبلغ عن اندلاع الحرائق في معظم الأحيان.


انضمام لبنان إلى الشبكات الدولية

خلال السنوات الأخيرة، أُنشئ عدد من الشبكات تضم بلداناً أوروبية من حوض المتوسط، في سبيل التطوير وتبادل المعلومات والخبرات التي تساعد على فهم الأسباب الجذرية للحرائق، بالإضافة إلى المؤشرات الديناميكية لمختلف أنظمتها وأنماطها الإيكولوجية في مختلف الأنظمة البيئية لغابات حوض المتوسط.
وتؤكد الاستراتيجية الوطنية لإدارة الحرائق ضرورة مساعدة المؤسسات اللبنانية المعنية ودعمها في إعداد المناهج وأنظمة البحث اللازمة في إطار ملف الحرائق، وتشجيعها على الانضمام إلى شبكات الأبحاث الحالية العاملة في هذا السياق، في ما يتعلق بالمسائل المرتبطة بالأنماط الإيكولوجية للحرائق، فضلاً عن تفعيل تبادل الخبرات مع المراجع الرئيسية الرائدة.
ورغم أهمية أنظمة الرصد الجوية، فإن كلفتها العالية جعلت العديد من الدول تعتمد على بناء شبكات رصد وكشف استناداً إلى محطات ثابتة ومتحركة. وتُبرمج هذه العمليات أوتوماتيكياً باستخدام الأشعة ما تحت الحمراء وشاشات المراقبة التلفزيونية المزودة بالخلايا الكهربائية.