يشعر سكان عائشة بكّار بأنهم سجناء. يشكون بعض الممارسات الأمنية، التي تفاقم قرفهم من الميليشيات. يشتعل الفتيل. يقترب أكثر من ساعة الصفر. الناس في ضيافة الجيش، وقوى الأمن الداخلي حذرة: يُخشى أن تدوس الفتنة بقدميها على الجميع
أحمد محسن
كان ممكناً تلك المباني أن تطير. لو امتلكت أجنحة لطارت. وكان ممكناً الأرصفة هناك أن تغادر. أن تفك ارتباطها بالأرض، وترحل إلى جهة سالمة من الأحذية الثقيلة. لماذا الجلوس أمام فوهات البنادق، وكيف تأخذ الملالات مرغمةً، أمكنة الأطفال في الساحات، يسأل البشر أنفسهم هناك. لا مفرقعات ولا من يفرقعون. كانت المفرقعات رحمة. رصاص وقذائف اليوم. ومن جديد، أحزابٌ وطوائف. عائشة بكّار: عودٌ على بدء. لقد ضاق الناس ذرعاً بالميليشيات.
حتى وجود الجيش، ليس مطمئناً. هشم الفزع وجوه الناس. ينتصب العسكر في اللهب. يفتشون الأشياء الزاحفة على الأرض. كل الدراجات النارية التي تخرق أصواتها الهدوء المفتعل. كل السيارات التي يشتبهون فيها. تعبوا من الشمس. لفحَت جبهاتهم المثقلة بالوقت. لكنهم رغم كل جهودهم الثمينة، لا يكفون. على ما يبدو، لسنا مواطنين بعد. يكفي أن تمر هناك، لتكتشف أن الاعتماد في الشدائد، يتخطى أولئك الجنود. تقف الأحداث عندهم لبرهة، وتستمر الحالة السياسية بمصادرة الأمن. الأمن بالتراضي، وبالتوافق غير ممكن. لا يخفق طويلاً. تبدأ مرارته من أحمد محمود شهيداً في أرض جلول، ولا تنتهي في وجع زينة الميري، على شرفة منزلها، شهيدةً طاهرة جداً. لا تنتهي، لأن للموت بين فكي المذاهب تداعيات. في تلك الناحية من الشارع (شارع العليّة)، يرتفع علم لحركة أمل. في الناحية المقابلة، يرتفع علم لتيار المستقبل. وبينهما، يشتد الحصار، على بائع الخضار، وطالب العلوم القرآنية، والفرّان. تدفع الناس الثمن. تهرب سريعاً إلى طوائفها، فور اندلاع المصائب. هكذا، انضم الناس إلى مذاهبهم، بعد الاشتباكات الأخيرة. يقولون ذلك بخجل. يسبّون السياسيين جميعاً في البداية. ما يلبثون أن يعودوا إلى أحضانهم. يبدون في حيرة من أمرهم. يشاركون العسكريين الخوف من الكاميرات. أنت هناك في منطقة عسكرية لا تنقصها إلا الأسلاك الشائكة. يحكم الجيش الطوق على عنقها، وتتغلغل فيها رائحة الميليشيات.

«والعيشة مرّة سجن وعساكر»

قبل أيام قليلة، دهم عناصر من قوى الأمن الداخلي منزل شخص في المنطقة. طالب جامعي يلاصق الهدوء ملامحه. عرفوا عن أنفسهم بأنهم من «شعبة المعلومات». دخلوا إلى منزله بثيابهم المدنية. جسدّوا صورة رجل الاستخبارات المخيفة. اقتلعوا الشاب من حضن والدته. قالوا لها إنه موقوف بموجب مذكرة بحث وتحر. اعترض جنود الجيش، فاضطر رجال الأمن إلى العودة بعد دقائق لاحتجاز الشاب، مع بطاقات تؤكد انتماءهم إلى «شعبة المعلومات». أخذوه إلى مخفر الروشة. حققوا معه. عادوا ليسلموه إلى الجيش اللبناني، بعد نقله مقر الشرطة العسكرية في الريحّانية ــــ اليرزة. تحول ذهول الشاب الموقوف إلى هلع. عاد من «كزدورة» صيفية مع أصدقائه، ليجد نفسه في مكان واحد مع موقوفين يشتبه في انتمائهم إلى تنظيمات أصولية. سألهم عن أنفسهم. ازداد هلعاً. عرف أنهم من مخيمي نهر البارد وعين الحلوة. وثمة مسؤول تاريخي وحاضر أيضاً، عن وشم الأصولية بالمخيمات الفقيرة. لم يفت الشاب أن يذكر أي تفصيل. أخرجوه قبل ساعات الضوء الأولى. ضل طريقه. فتحوا له الباب وقالوا اذهب في عتمة الليل. لم يكن ليعرف منها شيئاً، لو لم تهتدِ إليه دموع أبويه. كانا حتى تلك اللحظة، على غير معرفة بما يجري، ولما يوقف ابنهما. ذنبه الوحيد أنه من سكّان منطقة عائشة بكّار. «ذنبه أنه ينتمي إلى طائفة معينة» يعلن والده. سألنا أصدقاء الشاب شهاداتهم. محمد الشرقاوي، قال إنه من طائفة أخرى، ومن سكان طريق الجديدة، وإنه كصديقه «المعتقل»، بلا اهتمامات سياسية. يستغرب القصة التي حدثت مع صديقه. يؤكد أنهما، وبرفقة شابين آخرين، كانا يقضمان ما تسنى لهما من زرقة البحر في مدينة صور الجنوبية، ساعة حصول الحوادث. لا علاقة لصديقه القديم بكل هذه الأحداث، وذهب بنفسه إلى المخفر ليشهد بكل هذا التفاصيل، لكنهم لم يكترثوا له هناك. سلموا فريستهم إلى الشرطة العسكرية فوراً. وأمام هذه الحقائق، نفى مسؤول أمني رفيع في قوى الأمن الداخلي بعض التفاصيل المتعلقة بطريقة توقيف الطالب الجامعي. أكد أن رجال المعلومات عرفوا عن أنفسهم كما ينبغي، وأنهم كانوا يؤدون واجباتهم في تطبيق المذكرة القانونية. لم يضربوه في مخفر الروشة، أو في الريحانية، لكنه حاول أن يخفف من وقع السوء في وصفه لسير الأمور هناك: «ألطف مما نسمع عادةً، لكن ليسوا لطيفين أبداً». ضحك من ألمه. يعتقد هو الآخر أن ثمة من يرغب بطرده من الشارع الذي عاش فيه طفولته. يريدون سلبه ذكرياته بالتقسيم الطائفي. يخشى أنه لم يعد محايداً، وأنهم يضطرونه للولاء إلى الأحزاب الكلاسيكية في طائفته. رغم أن محمد والشاب الموقوف كانا معاً على شاطئ صور، اعتقل الأخير فقط، فيما بدا للبعض، أنه تنفيذ لوعود قطعها بعض رجال فرع المعلومات لجهات سياسية محددة، بـ«تطهير» المنطقة من إحدى الطوائف الكبرى، عقب الضجيج الذي تلى أحداث عائشة بكّار.

«بخّاخ» يكتب تقارير وأجهزة رسمية «متورطة»

مجدداً، نفى المسؤول الأمني أن يكون سبب اعتقال الشاب مذهبياً. رفض الأمر رفضاً قاطعاً. ونفى حادثةً أخرى يتبادلها سكان المنطقة، ويتحدثون فيها عن إحصاء قام به رجل أمن، بالزي الرسمي. كان الإحصاء سهلاً: هل أنت سنّي أم شيعي؟ يتداول سكان المنطقة هذه القصة المعيبة، ويتفقون على أن توقيتها كان منذ نحو 8 أشهر. يجدد المسؤول توضيحه، منبهاً إلى احتمال وجود شخص انتحل صفة رجل الأمن، ليقوم بفعلة من هذا النوع. ترفض إحدى السيدات في المنطقة مقولة السلم الأهلي من أساسه. تشير بإصبعها إلى رجل يقف بثقة على ناصية الطريق. يدس يديه في جيبه، ويراقب المارة. قالت إنه يهاجم الجميع، و«إنه يقبض المال من جهة سياسية معينة تملك نفوذاً سياسياً في أجهزة الدولة». رجل آخر في المنطقة، يتهم شخصاً بكتابة تقارير إلى فرع المعلومات: «أبو العصفور». وفي الجهة المقابلة، يشكو سكان موالون لتيار المستقبل، من استغلال بعض الأطراف الحزبية المعارضة، لنفوذ تملكه في أجهزة رسمية: «حرس مجلس النواب تحديداً»، يقولون. وفي ضوء الاتهامات المتبادلة، يسهل الاستنتاج من حديث الناس، أن الحالة السياسية العامة أفقدت المواطنين ثقتهم بالمؤسسات الأمنية. ربما تكون مخاوف الناس مبالغاً فيها، وربما يتساوى الفريقان في النزعة الميليشوية. البصيرة صعبة في ضباب عائشة بكّار.
«إذا لم تُبذل جهود سياسية على مستوى عال، فقد ينفجر الوضع في عائشة بكّار. يجب تدارك الأمر. لا أخفي عليكم أني قلقٌ جداً من الوضع هناك»، همس المسؤول الأمني آخر كلماته. بدا مُحرجاً من الضيق الذي سببه السياسيون للمنظومة الأمنية الرسمية.


تراخ أمني

رأى النائب هاني قبيسي في تصريح سابق له أن الأمن في لبنان، وبيروت خصوصاً «يُمنع المسّ به تحت أي عنوان»، مديناً ما جرى من أحداث في عائشة بكار، ودعا الجيش والقوى الأمنية إلى اتخاذ «الإجراءات والتدابير الحازمة لردع أي مخالفة تستهدف الاستقرار وأمن أهلنا في بيروت». وفي السياق نفسه، علق النائب عن تيار المستقبل، نهاد المشنوق، على التوتر الحاصل في عائشة بكّار، في تصريح إعلامي، اتهم فيه «بعض المؤسسات الأمنية بالانحياز إلى المعارضة، وذلك منذ فترة تعود إلى ما قبل الانتخابات النيابية، متحدثاً عن تراخٍ أمني أدى إلى تفاقم الأمور في المنطقة». لكن، وفي موازة ذلك كله، أكد أكثر من شاهد عيان على الأرض، من مناصري الفريقين، أن الوضع ليس مطمئناً رغم التوافق السياسي، الذي انعكس في انتخاب الرئيس نبيه بري لرئاسة البرلمان، وتكليف النائب سعد الحريري تأليف الحكومة الجديدة. «التوافق فوق، لكن النار تغلي من تحت»، قال أحد المواطنين الغاضبين من الطبقة السياسية برمتها، كما أصر.