من «أرض السواد»، كما سمّتها عشتار، حمل عوده ومضى هائماً بين المنافي. وهو اليوم من أبرز ورثة مدرسة العود العراقية. لحّن أدونيس ومحمود درويش وآخرين، واهتمّ بتعليم الأداء والعزف والموسيقى، وبالبحث عن وسائل تواصل حقيقي بين الفنّ الجاد والجمهور
بيسان طي
المشهد في «قصر الأونيسكو» غير مألوف. آلافٌ يتزاحمون لإيجاد مقعد في الصالة الكبرى. شبَّان وكبار، رجال وصغار، أغنياء وفقراء، انتظروا بصبر انتهاء الخطباء، ثمَّ ساد الصمت عميقاً... وصعد نصير شمَّة إلى الخشبة.
في هذه المرحلة من حياة الوطن العربي، يندر أن تتطوّر علاقة بين جمهور من مختلف المشارب وفنّان يرفض الإبحار في موجة الفنون التجاريَّة. لكنَّ المؤلِّف الموسيقي العراقي عرف كيف ينقل عشقه للعود إلى جمهور واسع، يتجاوز العالم العربي إلى دول غربية وآسيوية عدّة.
يقول صاحب «مقامات زرياب» إنَّ ما بينه وبين آلة العود قصّة حب من النظرة الأولى. كان فتىً في الحادية عشرة، وتلميذاً في مدرسة الكوت. وفي يوم ـــــ يؤرّخه على طريقته ـــــ كان اللقاء: «لمحت العود بين يدي أستاذي. كنت أراه للمرة الأولى، لكنَّ قوّة سحريّة شدَّتني إليه من دون أن أعرف السرّ... في تلك اللحظة عرفت أنه قدري».
نظرة أولى، فلقاء مع الآلة التي ستصير قدره، ورفيقة دربه، وأداة التعبير الخطيرة أيضاً. درسه شمَّة على يد أستاذه صاحب حسين الناموس. ثمَّ كان له في العاصمة العراقية أساتذة كبار منهم علي الإمام وروحي الخمَّاش وسالم عبد الكريم ومنير بشير، وقد تابع دراسته الجامعيَّة في «معهد الدراسات الموسيقية» في بغداد.
عام 1985، عزف شمَّة مقطوعات أولى من تأليفه، يسترجعها اليوم باعتزاز: «الأميرة السعيدة» و«نسمات عذبة» و«حب العصافير» وغيرها... بسرعة، سطع نجمه، واحتل الشاب مكاناً تحت الضوء... ولفت انتباه أستاذه منير بشير الذي عدّه واحداً من أهمِّ العازفين والمؤلِّفين. لكنَّ التلميذ النبيه لن يعيش طويلاً في جنة الأستاذ الكبير. طُرد منها بعدما أسَّس فرقة موسيقية شاركت في مهرجانات مهمَّة في العراق، وفق ما روى شمَّة نفسه في غير مناسبة. هكذا، انقلبت حياة الفنّان المسكون بالموسيقى، فعاش ضغوطاً كبيرة، وصدمات مؤلمة، واتسعت هوَّة الخلاف بينه وبين أستاذه، ثمَّ أودع السجن بتحريض من بعض المقرَّبين من السلطة العراقية آنذاك.
بقيَ في السِّجن عاماً كاملاً، ولولا تدخل أحد أقاربه، لأمضى سنوات فيه، أو اقترب من حبل المشنقة. لم يكن نصير قد فكّر في أن يهجر بغداد، لكنَّ الرياح العاتية قرّرت غير ما تشتهي سفينته: نصحه أقارب وأصدقاء بالمغادرة لأنَّهم لن يتمكنوا من حمايته. كان ذلك في عام 1993.
الفنّان الذي لُقّب في بداية صعوده بـ «زرياب الجديد»، سيجد نفسه على خطى زرياب من بغداد إلى المغرب العربي فأوروبا. بعد العراق، كانت له محطة في الأردن، هناك التقى فنانين أردنيين وفلسطينيين، وتمكَّن من التعمق في التراث الموسيقي الفلسطيني. أمَّا في تونس والمغرب، فعاش تجربة غنية جداً. من جهة، أبهر الجمهور الواسع بأعماله وإطلالاته، ومن جهة أخرى تعرَّف إلى التراث الغنائي والموسيقي المغاربي، على اختلاف روافده ومدارسه وتنوّعاته. في تونس سيعمل ويعلّم العود، ويشارك في تجارب مسرحيّة وفنيّة مختلفة، مثل عرض «البلاد طلبت أهلها» للمخرج المنصف السويسي. ثم شدّ الرحال إلى أوروبا.
عبر «زرياب» مضيق جبل الطارق، ليجد نفسه في قلب القارة العجوز. هنا أيضاً سيلتقي جمهوراً واسعاً ومتنوّعاً بات اليوم يعرفه جيّداً ويتابع مؤلّفاته بوفاء. في لندن، قادته تحقيقاته وقراءاته وأبحاثه إلى مكتبة بحثيَّة عامَّة، وجد فيها مخطوطاً للفارابي، وتوقف فيه عند ما كتبه الفيلسوف عن عود بثمانية أوتار، فعمل عليه. وهو اليوم يعيش في القاهرة منذ سنوات، حيث أدى دوراً مهمّاً فنيّاً وتربويّاً، في التأسيس لإطلاق أجيال إبداعيّة جديدة. ولحّن كبار الشعراء العرب مثل أدونيس ومحمود درويش، وأطلق «بيت العود العربي» الذي تمتد فروعه من الجزائر إلى القاهرة.
مرَّت سنوات طويلة قبل أن يصدر صاحب «رحيل القمر» ألبومه الأول. كان يريد أن يتأكد من نجاح تجربته قبل أن يقدم على تلك الخطوة. في عام 1994، أصدر «عود من بغداد» وذلك عن «معهد العالم العربي» في باريس. قبل ذاك كان يوزّع أعماله على أشرطة كاسيت ضمن إطار محدود، وأوَّلها «صامتاً أعلن حبي» (بغداد ــــ 1988). اليوم بات في سجّل هذا الموسيقي العراقي التائه، كم من الإصدارات المهمّة: تسع أسطوانات رقميّة، بينها «رحيل القمر» و«أحلام عتيقة»، ومن أقربها إليه «أرض السواد». يتوقف عند عنوان ألبومه هذا، ليقول إنّه اختاره نسبة إلى مقولة الإلهة عشتار التي سمّت أرض ما بين النهرين يوم نزلت فيها بـ«أرض السواد والخير الوافر».
تأثَّر نصير شمَّة بعدد كبير من أبناء المدرسة العراقية للعود، لكنَّه في حديثه يتوقَّف طويلاً عند الفنان جميل بشير. يلفت هنا إلى أنَّه عند متابعته لأعمال كبار الفنانين ممَّن عاصرهم، لا يدرس ما أنتجوه من أعمال موسيقيَّة فقط، بل يتأنَّى في دراسة أسلوب تواصلهم مع الجمهور، ليقوم ببناء حواره الخاص مع جمهوره.
السنوات الصعبة التي عاشها ويعيشها العراق منذ سنوات، تركت بصماتها بوضوع على إبداعات نصير شمَّة واهتماماته. وقد ابتكر طريقة للعزف بيد واحدة، وعينه على مواطنيه الذين خرجوا من دوامة العنف بإعاقات جسديّة مختلفة. وما زلنا نذكر الدور الذي أداه خلال حصار العراق في جمع المساعدات لدعم شعبه المحاصر.
اليوم، يستعد نصير للتحوّل الكبير، إذ إن أحلام العود التي تداعبه لم تعد مجرّد أحلام. يمضي أوقاته بين بيت العود الذي أسَّسه في القاهرة عام 1998 ـــــ حيث اتخذ من «بيت الهراوي» الأثري مركزاً له ـــــ وبين فرقة «عيون» لموسيقى التخت العربي. كذلك يشارك أيضاً في حملة لدعم اللاجئين العراقيين والفلسطينيين والسودانيين...
حين التقينا نصير شمَّة في بيروت قبل أربع سنوات، كان يردِّد أنَّه لن يعود إلى العراق... إلَّا بعد انسحاب آخر جندي أميركي من بلاده. اليوم، يبدو المؤلِّف الموسيقي العراقي أقرب إلى تحقيق حلمه: «إنَّها مسألة وقت قصير، الجيش الأميركي ينسحب من المدن والمجمعات السكنية... أنا عائد إلى بغداد».


5 تواريخ

1963
الولادة في مدينة الكوت
(جنوبي شرقي بغداد)

1993
الخروج من العراق

1994
أصدر ألبومه الأول «عود من بغداد»

1998
أسَّس «بيت العود» في القاهرة

2009
يواصل حملاته لدعم أطفال العراق ومعالجتهم. ويخطط للعودة إلى وطنه بعد انسحاب الاحتلال