strong>محمد طي *في الذكرى الثالثة للعدوان الصهيوني على لبنان، ما زال هذا السؤال يطرح. وفي الجواب نقول:
منذ عام 1973، صرفت الأنظمة العربية النظر عن موضوع القتال لانتزاع الحقوق العربية من إسرائيل، وروّجت لهذا التوجه بحيث أقنعت به قطاعات واسعة من الجماهير العربية، حتى راح بعضهم يعتقد أن التفكير بمواجهة إسرائيل هو ضرب من الجنون.
في ظل هذا التوجه، ماذا يبقى لنا من وسائل الضغط للحصول على الحقوق؟
يطرح بعضهم الدبلوماسية ومساعدة المجتمع الدولي. والمجتمع الدولي بمفهومه الواقعي اليوم، هو أميركا أساساً، القطب الوحيد، وإن كانت تترنّح، إلا أنها ما زالت الأقوى عالمياً إلى حد بعيد.
فهل أميركا مع القضايا المحقّة، وبالتالي مع قضايانا؟ إن الجواب يعرفه حتى الأطفال، فكيف ستضغط على إسرائيل لتجبرها على أن تتنازل لنا عن حقوقنا؟
إنّ التجربة أثبتت أنها تضغط علينا لنتنازل عما لم تستطع إسرائيل انتزاعه منا. ففي حرب تشرين / أكتوبر، مدت إسرائيل بالجسر الجوي لتنقذها من الهزيمة، ثم سعى كيسنجر لإقناع السادات بالاكتفاء بنصف نصر، ثم انتزعت الإدارة الأميركية لمصلحة إسرائيل التنازل النهائي عن الحرب ضدها، وحتى عن إمكانية ذلك ولو احتياطياً، مقابل سيناء منزوعة السلاح ومحرَّمة على الجيش المصري.
فهل يبقى من محل للدبلوماسية في ظل هذا الواقع؟ إن الدبلوماسية تعتمد، حتى تستطيع أن تحقق شيئاً، على عوامل القوة، فإذا كنت مجرداً منها فإنك لا تستطيع أن تحقق شيئاً.
أما الدبلوماسية المعتمدة على البلاغة في الدفاع عن الحق، وحسن استخدام الحجج وتسخير القانون الدولي، فما يمكن أن تؤدي إليه، هو ما حصّله الفلسطينيون منذ أن آمنت حركة «فتح» وبعض الفصائل الأخرى بهذا الطريق، طريقاً وحيداً.
إذاً ما العمل؟
يملك العرب عناصر قوّة، منها الاقتصادية ومنها العسكرية. لكن القوّة الاقتصادية ليست في أيديهم، ومن الصعب مبدئياً أن تكون لأسباب يعرفها الجميع. أمّا العسكرية، فقد حرم العرب أنفسهم من إمكانية الضغط بها. وبقوا على هذا المستوى لا حول لهم ولا طول، فهل هذا قدرنا؟ أن نقف صاغرين ونعطي العدوّ ما يريد، وهو يريد كل شيء؟ أم نفكّر بأساليب نحاول بها التصدّي لمطامعه؟
إنّ في أيدينا عنصر قوّة آخر لم يفشل، قام منذ زمن وما زال قائماً، وهو المقاومة.
هذه الحركة الشعبية التي تتطوّر باستمرار، أصبحت اليوم قادرة على استخدام عناصر القوة التي نملكها واقعياً، واستثمارها بالطريقة الفضلى في ظلّ كون العدو متفوقاً تفوّقاً كاسحاً، فنلجأ إلى حرمانه من ميزاته ما أمكن، وتركّز على ميزاتها، وهذا يتحقق عندما يكون زمام المبادرة في أيديها خاصة، وعندما تحسن استخدام عقولها.
غير أن المقاومة لا تمرّ من دون أثمان. ولا بد، كما علّمت كل التجارب، من أن تكون الخسائر في الجانب المقاوم أضعاف ما هي عليه في الجانب الآخر. وهذا ما تحمّلته كل حركات التحرّر في أميركا اللاتينية وآسيا وأفريقيا، ولا سيّما في الجزائر وفيتنام.
فهل يجب أن يدفع هذا الثمن؟
إذا لم يدفع هذا الثمن فلا تحقيق للمطالب. وإذا لم تتحقق المطالب، فهل يكون الثمن أقل؟
في واقعنا نعتقد العكس، ودليلنا التجربة الفلسطينية منذ ما قبل 1948 حتى اليوم، فإذا لم نقاوم، فإن الاغتصاب يتعمق ويتسع ويستشرس، لأنه مقتنع بأنه يفعل ذلك دون أن يتكبّد تكلفة مقابلة. أما إذا أدرك أنه لا بد من تكلفة، فهو سيتواضع، والدليل هو خروجه من الجنوب اللبناني سنة 2000.
في ضوء ما سبق، هل كانت عملية أسر الجنديين الإسرائيليين عملية خاطئة؟
إن هذه العملية، بما هي أحد أساليب المقاومة ضد العدوان، هي من حيث المبدأ واجبة. لكن هل كانت صائبة في ظل الظروف الدولية التي كانت قائمة، وفي ضوء ما كان يمكن أن تقوم به إسرائيل، وما قامت به؟
بالنسبة للظروف الدولية، هل كان يمكن أن نتوقع أن تصبح لمصلحتنا؟ إننا لا نعتقد ذلك.
أما ما كان يمكن إسرائيل أن تفعله، فهو أنه كان بإمكانها أن تدمّر لبنان بكل مدنه ومرافقه وربما أكثر من ذلك، في ضوء الدعم اللامحدود الذي تحظى به من أميركا.
فهل كان يجب أن يمثّل هذا رادعاً لنا عن أن نحّرك ساكناً في قضايا الأسرى ومزارع شبعا، والألغام وانتهاك السيادة والتهديد؟
إذا كان الجواب بالإيجاب، فما هو السبيل للحصول على حقوقنا، بعدما ثبت عقم كل الأساليب «السلمية»؟ إننا لا نعتقد أن هناك أي أسلوب آخر.
إذاً فهل نستسلم؟
نعتقد أنه على المدى الطويل، وكما أثبتت التجارب، لا سيما في فلسطين والجولان، وغيرهما، سيكون الاستسلام أكثر كلفة، لأن مطامع العدو لا حدود لها. لهذا كان لا بد من التحرّك، وتحمل المسؤولية، ولو بالحدود التي يسمح بها القانون الدولي.
أما ما حصل واقعياً، فيتحمل وزره العدو والمجتمع الدولي، لأنه لا يحق للعدو أن يرتكب ما ارتكب، وكان على الحريصين على السلام أن يقفوا بوجهه. ومن هنا، فإن الجواب عن الإصابة أو عدم الإصابة، في عملية أسر الجنديين، هو: لو أن العدو كان يمتلك الحق بأن يدمّر ويقتل بالشكل الذي فعله، من جهة، ولو كان باستطاعته أن يستأصل المقاومة، من جهة ثانية، لكانت العملية خاطئة.
أما أنه لا يحق له ذلك من جهة، ولم يستطع أن يهزم المقاومة من جهة أخرى، فالعملية في محلها.
أما الخسائر، فهي الثمن الذي علينا أن نتحمله، لأننا محقّون. إذ لكل حقّ ثمن على صاحبه دفعه، ومن يستهول ذلك، فعليه أن يعلم أننا لسنا بدعاً من الشعوب، بل نحن منهم، ولا بد من سلوك الطريق الذي يسلكونه، ودفع الثمن الذي يدفعونه.
ولنا نقطة إضافية وهي أنه تمّ التحسب لكل الاحتمالات، في عملية الأسر، وأمكن نتيجة لذلك، مواجهة غطرسة العدو بردود، وإن كانت ليست بحجم جرائمه، إلا أنها كانت موجعة.
من هنا، وبدلاً من الإصرار على الانهزام والتباكي على الخسائر، لا سيّما أن لنا حقوقاً لم نحصل عليها من العدوّ. فليجرِ البحث في كيفية سدّ ما يمكن من الثغرات، التي سمحت للعدو بأن ينزل ببلادنا تلك الخسائر، وليس في توسيع الثغرات والتخلّي عن أي إمكانية للمقاومة والصمود.
* كاتب لبناني