وفي العام الثالث تدثّر وجه هويدا خالد بحجاب أبيض. قد يكون هذا هو التغيير الوحيد في الطفلة التي فقدت والدها وشقيقيها وعينها اليمنى خلال حرب تموز، من دون أن تفقد إصراراً يضيء الطريق نحو مستقبل أجمل
كامل جابر
"كل شي انقال، ما ضلّ في شي". عبارة تتسلل بصوت خافت من فم الطفلة التي لم تغيّر عادتها في الانطواء. فنراها تلوذ بوالدتها بحثاً عن الأمان، وبالصمت هرباً من القلق الذي قد تثيره الأسئلة. هذه حال هويدا في كلّ مرة تواجه فيها مناورة صحافية تحاول مشاركتها آلامها. نكرّر محاولات التسلل فلا ننجح في الحصول على هزة رأس إيجابية إلا عندما نسأل: ماذا لو شاركتنا الوالدة الحديث؟ خصوصاً أن الأخيرة كانت جارت ابنتها في قرارها "لن أضغط عليها. هذا الأمر يعود لها".
هويدا كانت برفقة أمها في الحظيرة القريبة من المنزل التي تضمّ بقرة واحدة، هي سبيل العائلة المكوّنة من خمسة أولاد (هدى، هويدا، فاطمة، علي وهديل) إلى مدخول قد يسدّ بعض الرمق. لا شيء في هذا البيت المتواضع القائم على رابية بين بلدتي دبين وجديدة مرجعيون يوحي بوجود مصدر آخر للرزق. لكن ثمة قراراً بمواصلة الحياة والتغاضي عن الحزن والألم الذي حلّ بالعائلة منذ ذلك اليوم الذي سقط فيه صاروخ قرب المنزل، في 19 تموز 2006، فحوّل حياتها إلى ما يشبه الجحيم. رحل الوالد مع عبلة (10 سنوات) وأحمد (سنة وثمانية أشهر)، ودمّر المنزل الذي قامت الأم بترميمه من مبلغ التعويض الذي تلقته، ولم يبق منه شيء. يدرك أفراد العائلة هذه الحقيقة وحجم العبء الملقى على كاهل والدتهم، لذلك "هم غير متطلبين" تقول الوالدة التي لم تنجح في حبس دموعها طويلاً. "المسؤولية كبيرة جداً، أعارك لوحدي من أجل خمسة أطفال. قبل ثلاثة أشهر أجرينا عملية لهدى التي أصيبت مع شقيقتها هويدا بيدها وفخذها. زرعوا لها وتراً لليد اليمنى، ونحن في انتظار نجاح العملية وشفائها تماماً".
أما هويدا، فحلّ مشكلتها مؤجل إلى أن يكتمل نموّها، ما يتيح تركيب عين زجاجية لمرة أخيرة. حتى ذلك الحين، تزور طبيب العيون، الدكتور يوسف دعيبس في جديدة مرجعيون، مرة كل شهر تقريباً خصوصاً في فصل الصيف، إذ تتشكل أوساخ وبقايا والتهابات في محيط العين الزجاجية. "نزوره دورياً حتى لا تتفاقم الالتهابات، وكلما شعرنا أن العين الزجاجية أصبحت تالفة أو صغيرة نقوم باستبدالها عند الطبيب الذي يراعي أوضاعنا ويقدّر حالنا المادية، لأن معظم الأعمال الطبية تتم على نفقتنا". ومن أجل التخفيف عن المصاريف، أشركت الوالدة عائلتها ببطاقة التعاضد من ثلاثة أشهر، يضاف إليها مساعدات بعض الجمعيات والمؤسسات "لا يتجاوز المبلغ 200 ألف ليرة شهرياً" تقول الوالدة.
لكن خطراً آخر يحدق بالعين الثانية، السليمة، جراء إصابة شبكة العين بجرثومة "ولذلك يجب أن أرتدي نظارات لكي أحمي العين السليمة وأخفّف عن التي فقدتها" تقول هويدا، لافتة إلى أن نظاراتها تحطمت وهي تنتظر شراء واحدة بديلة عندما تتحسن الأوضاع المالية قليلاً. تبدو هذه الطفلة متفهمة وضع والدتها التي "تتعب كثيراً. أتمنى أن أكبر بسرعة لكي أساعدها في تحمّل المسؤولية". لا تعرف كيف، لكن: "أنا أحلم بكل شيء. أحب الحصول على كومبيوتر وكلّ ما يساعدني على اكتشاف العالم. سأتابع دراستي، لا أعرف إلى أين سأصل لكنني أكره أن أكون معلمة لأني لا أحب أستاذ مادة العلوم ومنرفزة منه". تتدخل الوالدة لتوضح أن ابنتها ضعفية بمادة العلوم، ولذلك أتت بمدرّسة إلى البيت لتساعدها في فهم هذه المادة، وقد نجحت هذا العام وسوف تترفع إلى الصف السابع.
في مدرسة الإيمان في الهبارية، ترتاح هويدا إلى رفيقتها فاطمة، وعموماً "علاقتي مع أصحابي عادية جداً. الكلّ يتفهم ما جرى لي ولم أتعرض يوماً لأيّ محاولة إزعاج من أحدهم. بل هم يعاملونني بلطف، أعتقد أن كل شي بدو ينقال نقال ومنشان هيك كل شي عادي".
عبارتها الأخيرة ليست صحيحة تماماً، فالطفلة لا تزال تخاف من صوت الطيران الإسرائيلي الذي يحلّق دوماً في الأجواء، كما من صوت أي انفجار أو دويّ. "أحاول أن أنسى كلّ ما حصل لنا. لا أريد أن أتذكر أي شي، وأنا راضية بواقعي لأن اللي الله كتبه بدو يصير، لكن إن وقعت الحرب مجدداً لن أبقى هنا ولا لحظة، لا أنا ولا أهلي".
الحديث عن المدرسة هو مفتاح بعض الهمّ الذي باتت تتحمله الوالدة لوحدها. وإن كانت بعض المؤسسات والجمعية قد تكفلت بمصاريف التعليم، فإن على الوالدة مسؤوليات جسام. تنهض باكراً وتحلب البقرة. تعدّ أطفالها للذهاب إلى المدرسة وتوصل ابنتها الكبيرة هدى إلى ثانوية المستقبل في حاصبيا في سيارة متواضعة جداً تقودها بنفسها، لتعود بعد أكثر من ساعة وتعدّ اللبن لبيعه. بعد الظهر تتجه إلى حاصبيا مجدداً لتحضر ابنتها بعدما تكون حضرّت الطعام، فضلاً عن متابعة أمور الطفلة هديل التي كانت في أحشائها يوم نكبة العائلة، وأبصرت النور في شهر كانون الثاني من عام 2007 وتحمل عينين زرقاوين أشد شبهاً بعيني هويدا التي أضحت بعين واحدة يشوبها الخطر. لكن ثمة اهتماماً استثنائياً للوالدة يتركز باستمرار على هويدا "التي فقدت والدها وشقيقيها وعينها في لحظة واحدة، وكانت شاهدة على المجزرة، هذه التجربة جعلتها تكبر قبل الأوان".


كل عام وانت بخير

في 12 حزيران الفائت أتمت هويدا خالد أعوامها الـ11، كما أنهت عامها الدراسي في الصف السادس بنجاح. أما وجهها الحنطي، الذي تتقلّص ندوب جروح خدّه الأيمن، فقد أحاطته بحجاب أبيض ارتدته مطلع السنة الجارية "باختياري أكيد، وقد تعودت عليه وصار الأمر طبيعياً"