ياسين تملالي *في أول تموز / يوليو الماضي، توفيت مروة الشربيني متأثرة بثماني عشرة طعنة وجّهها إليها في قاعة محكمة ألمانية شاب عنصري كانت قد اشتكته لأنه حاول نزع خمارها ونعتَها بـ«الإرهابية». وقد ذكّرت هذه الجريمة الجديدة المسلمين بأن ديانتهم في «الغرب» لا تزال تهمة، وأن جنسياتهم هي قرائن إدانتهم بـ«الإرهاب».
ندّدت العديد من التظاهرات في مصر وألمانيا بالجريمة، وطالبت الحكومات الأوروبية بحماية حقوق المسلمين الدينية. لكن، كما كان متوقعاً، سرعان ما أصبح مقتل مروة الشربيني بضاعة كتب عليها «مصنوع في معامل المتزمتين». في التظاهرة التي جرت في الأزهر في القاهرة في 10 تموز / يوليو مثلاً، لم يكتفِ البعض بالمطالبة بمعاقبة الجاني، بل تعدوا ذلك إلى تذكير «المتبرّجات» بأن «الحجاب فرض» لا مناص منه. كذلك، استغل www.hejabweb.com مأساة عائلة الشربيني لتجذير «الحملة العالمية» من أجل الحجاب «الذي تفرّط به المسلمات، وتنطلي على بعضهن ضلالات الغرب ومؤامراته»، كما تقول الدكتورة ديمة طارق طهبوب، في إحدى صفحات هذا الموقع. أما على «الفايس بوك»، فأنشئت مجموعة اسمها «شهيدة الحجاب»، وجّه مؤسّسوها من على مقاعدهم الوثيرة هذه الدعوة إلى «البنات المسلمات»: «تمسّكن بحجابكن، هذا التاج الذي تحملنه فوق رؤوسكن، ولا تهبن شيئاً حتى لو كان القتل... فهي الشهادة وربّ الكعبة».هكذا، لا ينسى هؤلاء المتزمتون وهم يرْثون مقتل سيدة شجاعة ما يهمهم في المقام الأول: تجديد الحملات الداعية إلى التحجب، والزعم بأن الأخلاق هي الخمار وأن السفور هو العهر بعينه تقريباً. أما ما يثير التعجب، فتمسّحهم، وهم يدعون السلطات الأوروبية إلى ضمان حق المسلمات في تغطية رؤوسهن، بمبادئ «الحرية الفردية» التي يسعون جاهدين إلى تقليص هوامشها الضيقة في الدول الإسلامية. من واجبنا جميعاً، مسلمين وغير مسلمين، أن ندين الاعتداء العنصري على مروة الشربيني ونطالب بمعاقبة مقترفه عقاباً رادعاً. من واجبنا أن نذكّر بضرورة مقاومة «الإسلاموفوبيا» في عالم لم يصبح فيه المسلمون فريسة إلا لأنهم فقدوا حماية القانون لهم في العديد من دول «الغرب». لكن هل من حق المتزمتين والمتزمتات، من هواة السطو على مآسي الغير، أن يصرخوا بأعلى أصواتهم في مناسبة كهذه أن «الحجاب فرض»، وأن يرددوا لمن لا يرتدينه بأنهن سيصلين نار جهنم؟
هل يعقل أن يدعوا صادقين إلى «احترام الحريات الفردية» في أوروبا وهم يشاركون أنظمة بلداننا في اغتيال الحريات، الفردية منها والجماعية؟ أليست الغرابةَ بعينها أن تصبح الدعوة إلى احترام الحريات في «الغرب» دعوة إلى تكبيلها في العالم الإسلامي، وأن يتحول الدفاع عن «حق التحجب» إلى تخويف من عواقب السفور؟
ليست هذه هي المرة الأولى التي تبدو فيها على هؤلاء المتزمتين أعراض هذه السكيزوفرينيا. يتألمون لمقتل أبناء الأقليات المسلمة في «بلاد الكفر»، ولا يضيرهم أن يقتل أبناء الأقليات القبطية في مصر والكلدانية في العراق، لا لشيء سوى لأنهم مسيحيون ظنوا أنهم لم يعودوا «أهل ذمة»، مثلما ظن مسلمو أوروبا أنهم فيها بشر كاملو الحقوق. ينددون بما ينشر من كتابات تفيض عنصرية عن العرب المسلمين، وتفيض مطابعهم بكتب تصف «النصارى» بأبشع الأوصاف، وتخلط عمداً بين اليهود والصهاينة، بين أتباع الديانة اليهودية ومغتصبي أرض فلسطين من شذّاذ الآفاق. يدين هؤلاء المتزمتون استهزاء «الغرب» برموز الإسلام، وفي الوقت ذاته يهدم بعضهم تماثيل بوذية اجتازت 14 قرناً «إسلامياً» من غير أن تصاب ولو بخدش صغير، فيما يسكت بعضُهم الآخر عن ذلك أو يؤيده جهاراً دون أن يخشى في «وهابيته» لومة لائم. يدعون إلى حماية حق مسلمي أوروبا في إنشاء جمعيات دينية ويسعون إلى التضييق على «الأحزاب العلمانية» في البلاد الإسلامية ومحاكمة العلمانيين بتهم الكفر والزندقة. يريدون إطلاق «حرية الدعوة» في «الغرب الصليبي» وتراهم في مقدمة المطالبين بـ «مكافحة التبشير المسيحي في دار الإسلام»، وتغليظ العقوبات على ممارسيه، فضلاً عمّن «غيّر دينه» كما يقولون، فذلك يستحق أقصى درجات العقاب، أي القتل. يريدون بناء مساجد في كل شبر من العالم، فهذه حرية العبادة يقولون، لكنهم يثورون أيّما ثورة عندما يصلّي مسيحيون في محل صغير بسبب عدم وجود كنيسة يجتمعون فيها. من واجبنا أن نحيي في مروة الشربيني شهيدة للحرية، وأن نسعى إلى أن نجعل من جزاء قاتلها عبرة للنازيين الجدد وغيرهم من العنصريين. لكن ليس من حق متزمّتينا ومتزمّتاتنا أن يحتكروا ذكراها، ولا أن يجعلوا من دفاعها عن حريتها ذريعة للانقضاض على حريات غيرها. وليس من حقهم أن يزعموا مقاومة «اضطهاد إخوتنا في أوروبا» وهم في الدول الإسلامية يبرّرون اضطهاد كل من يختلف معهم في الرأي بواجب الحفاظ على «هويتنا المهددة»، أي بالضبط كما يبرر العنصريون الأوروبيون اضطهادهم للمسلمين!
* صحافي وكاتب جزائري