ناهض حتر *كان الحزب الشيوعي آنذاك قوة سياسية وميدانية فاعلة في الصراع. لكنه في الحقيقة كان هو مَن يلعب دوراً وظيفياً في صراع طائفي محلي، برره مهدي بالعكس، أي بالقول إن تحالف الطوائف الإسلامية كان يلعب دوراً وظيفياً في صراع كوني بين الاشتراكية والرأسمالية.
صراع العصبيات اللبنانية، كما كان منذ قرون، يخضع بالطبع للتغيرات والتأثيرات الدولية والإقليمية، ولكنه يعيد إنتاجها وفقاً للمقاييس المحلية. وفي العقد المنصرم من القرن الواحد والعشرين، وبالنظر إلى صعود قوة إيران الشيعية، ومن ثم الشيعية العراقية (بعد 2003)، انتقل الصراع الداخلي اللبناني من إسلامي ــــ مسيحي إلى شيعي ــــ سنّي، وتفرّق المسيحيون على الجبهتين. وقد لعبت العصبية الشيعية اللبنانية، ولا تزال، دوراً وظيفياً في القتال ضد إسرائيل، مما يغري شيوعيين ويساريين للالتحاق بها. بينما لعبت العصبية السنية، ولا تزال، دوراً وظيفياً لمصلحة التحالف الإمبريالي ــــ الرجعي العربي. وهناك شيوعيون ويساريون قرروا الالتحاق بها، إما تعبيراً مباشراً عن التحاقهم بعصبيتهم الطائفية أو بسبب انتقالهم إلى موقع سياسي ليبرالي. وبين الفريقين اليساريين الملتحقين هنا وهناك، برز تيار ثالث رئيسي ينأى بنفسه عن الاندراج في أي من حلفي الصراع المحلي من دون أن يؤسس لرؤية ثالثة. وقد تجلت النتيجة السياسية لهذا الخيار بالأرقام الموجعة ــــ المضحكة التي حصل عليها مرشحو الحزب الشيوعي في الانتخابات النيابية اللبنانية. وهي أرقام لا تعكس قوة الحزب الفعلية بقدر ما تعكس حيرته، وبالتالي شلله الفكري السياسي. لا أحد يحتاج حزباً غير منحاز كلياً، ولا أحد يحتاج حزباً لم يعد له حليف دولي كبير مستعد لتقديم المساندة والدعم، كما كان الأمر في حقبة السبعينيات.
واجه اليساريون العراقيون والعرب المأزق نفسه، في الصراع بين العصبية السنية والعصبية الشيعية، الناشب بعد الاحتلال الأميركي عام 2003. التحق بعضهم بعصبيته كلياً، متخلياً عن ماضيه الفكري السياسي، وتوزع بعضهم تبعاً للوظيفة التي تلعبها كل من العصبيتين. فالدور الوظيفي للعصبية السنية في تصعيد المقاومة المسلحة للاحتلال اجتذب يساريين وعلمانيين، كما أن الدور الوظيفي للعصبية الشيعية في التجديد الممكن للدولة العراقية لمصلحة الأغلبية، اجتذب آخرين. وظل النقاش دائماً، ولا يزال، يخبّئ الاعتراف بأولوية العصبيات وقوتها ودورها الوظيفي، متخذاً لهجات مختلفة من التنظير الماركسوي إلى التشاتم على الطريقة العراقية.
في الأردن، حيث لا انشقاقات دينية أو طائفية، برز الصراع السياسي بين العصبية الأردنية والعصبية الفلسطينية ــــ الأردنية. والتسمية الأخيرة تشير إلى الوضع الخاص المعقد لفلسطينيي الأردن، ذلك الذي أفرز عصبية محلية مميزة عن الوطنية الفلسطينية في فلسطين والمنافي الأخرى. وتلعب كل من العصبيتين دوراً وظيفياً في البنية المحلية: العصبية الأردنية الرافضة لـ«الشراكة»، والمندمجة تقليدياً في بنى القطاع العام، ترفض التوطين والقطاع الخاص والخصخصة. وهي بالتالي تنزع إلى إدامة الصراع مع إسرائيل، وتعتبر الليبرالية الاقتصادية لاوطنية، وتؤيد دوراً مركزياً للدولة في الاقتصاد والمجتمع. ذلك ما يجعل العصبية الأردنية تلعب دوراً وظيفياً كقاعدة لمعارضة وطنية ــــ اجتماعية للنظام التوّاق للالتحام مع العصبية الفلسطينية ــــ الأردنية، التي أضحت تمثّل قاعدة اجتماعية طبيعية للنظام وسياساته من التوطين وإنهاء كل أشكال الصراع مع إسرائيل، والخصخصة والليبرالية الاقتصادية الشاملة، وتفكيك البنى التقليدية المعرقلة للبرلة، وخصوصاً العشائرية. لكن يبقى للعصبية الفلسطينية ــــ الأردنية نزعات معارضة:
1ــــ مدنية تمثلها الفئات الوسطى المحلية الساعية إلى توسيع الليبرالية الاقتصادية إلى ليبرالية اجتماعية وثقافية وسياسية، تكفل لها الحياة المدنية من جهة والمحاصصة من جهة أخرى. و2ــــ إسلامية تأنف من اللبرلة الاجتماعية والثقافية، وتركز على اللبرلة السياسية من جهة، وتسعى إلى دفع النظام إلى التفاهم مع «حماس» بدلاً من السلطة الفلسطينية. لكن المشترك يظل في التشريع السياسي للتوطين والمحاصصة ودعم الليبرالية الاقتصادية.
وخلال السنوات الماضية، عملتُ على استعادة مهدي عامل، وتطبيق التحليل البنيوي ــــ الوظيفي على الحالة الأردنية، من أجل الإفادة من النزعات الموضوعية للعصبية الأردنية في قاعدة جماهيرية متلاحمة للثورة الوطنية الاجتماعية. هذا المسعى النظري وصل، بالنسبة لي على الأقل، إلى طريق تجريبي مسدود. فالعصبية الأردنية، على نزعاتها الوطنية والاجتماعية، ظلت تدور في فلك النظام لا في فلك الثورة، وتحاول استرضاءه واجتذابه إلى صفها. بالمقابل، تصلّبت العصبية الفلسطينية ــــ الأردنية وراء برنامج سياسي توطيني ليبرالي جديد، رافضة رفضاً مطلقاً الحوار، بل التفاهم، مع أية قوة وطنية أردنية على إدارة عقلانية للتناقضات المحلية. وبينما تراجعت قوّة الإسلاميين، شهد الأردن التحاقاً جماعياً من اليساريين الفلسطينيين ــــ الأردنيين بعصبيتهم التي تستقوي بحاجة النظام والتحالف الأميركي ــــ العربي إليها، لفرض شروطها في مضمون التوطين السياسي وشكله على أساس المحاصصة وثنائية الهوية أو تشكيل هوية ثالثة جديدة على أساس ليبرالي. وبالنتيجة، تتراجع إمكانيات الثورة الاجتماعية أو التفاهم الوطني لمصلحة انحطاط سياسي وأخلاقي مريع على الجانبين، يسمح لأقليّة من الليبراليين الجدد، باللعب في الوقت الضائع قبل انفجار أهلي كارثي، لم أعد أثق بأن هنالك قوى محلية قادرة على منعه.
منذ سنة 2000، ظهرت في سوريا محاولات برّاقة من ليبراليين وماركسيين لإحداث تغيير في البلد. الأوائل ــــ وفي أعلى سقف وصلوه عبر «إعلان دمشق»، نزعوا نحو إصلاح ديموقراطي مدني ــــ والأخيرون حاولوا إعادة إحياء اليسار وتوحيده وراء برنامج ديموقراطي اجتماعي (التجمع الماركسي، جماعة قاسيون...). لكن سرعان ما تبيّن أنها محاولات نخبوية هامشية، وموجودة في السياق الثقافي لا السياسي. وما أعطى هذه المحاولات بريقاً هو الأضواء الإعلامية المرتبطة بخطط إدارة جورج بوش وحلفائها العرب للضغط على سوريا بالحصار الخارجي والمعارضة الداخلية معاً.
في المقابل، سعى النظام السوري الشديد الواقعية، ويسعى، إلى تجاوز الانشقاق الداخلي، وتعزيز صفوفه من خلال اعتراف ضمني واقعي بوجود العصبية السنية ومصالحها ومطالبها، وأهمية إدماجها داخل النظام لتحسين شروط إدماج سوريا في النظام العربي والدولي. وقد تمثلت تلك المساعي الواقعية في ثلاثة محاور:
1ــــ انتهاج سياسات ليبرالية اقتصادية متسعة تستوعب مصالح الميركنتيلية السنية، وتسمح بتدامج نخب البزنس والفساد بين العصبيات. و2ــــ التراجع المتصاعد عن العلمنة الاجتماعية والثقافية لمصلحة حساسية السلفية السنية (لاحظ مشروع قانون الأحوال المدنية الجديد الرجعي، عودة وزارة الثقافة إلى نشر الكتب الدينية، السماح بالرقابة السلفية على المطبوعات الثقافية والفكرية...).
و3ــــ إدماج عناصر سنية في قيادة المؤسسات الأمنية. والترجمة السياسية الرئيسية لهذه المساعي هي المصالحة مع حركة «الإخوان المسلمين» الذين أعلنوا، أخيراً، عن تجميد نشاطهم ضد النظام وانسحابهم من هيئات المعارضة. فـ«الإخوان» السوريون يمثلون، في الأخير، العصبية السنية، ويلتزمون مصالحها الواقعية.
يمكن الماركسي العربي أن يواصل غضّ النظر عن اتجاهات الواقع السياسي ــــ الثقافي هذه، كالنعامة، أو يمكنه التعالي عليها تعالياً يقوده، حتماً، إلى التهميش السياسي. ويمكنه رفضها من موقع وطني ديموقراطي أو اشتراكي في طوباوية تنزلق عن الإمكانيات الفعلية للتغيير. لكن كل تلك البدائل، بالإضافة إلى لاجدواها السياسية، تطرح مشكلة نظرية لا يمكن تجاهلها. وهي أن التحليل الماركسي الكوني للمجتمعات والسياسة العربية يظل غير منتج معرفياً، وعاجزاً عن بلورة نظرية للتغيير الاجتماعي والسياسي. فالعرب ما زالوا خارج التاريخ الحديث، وتالياً خارج الماركسية، وما زال تاريخهم محكوماً بابن خلدون. فصراع العصبيات لا صراع الطبقات هو المحرّك العميق لتاريخ يدور على نفسه في حركة دائرية مقفلة.
مَن يستطيع تقديم تحليل عياني وملموس للمجتمعات والسياسات في المشرق العربي خارج منطق ابن خلدون؟ حتى عندما كان ماركس موجوداً عربياً على المستوى السياسي، بفضل الاستقطاب الدولي للحرب الباردة، هل خرج أكبر وأهم حزب شيوعي عربي، أعني الحزب الشيوعي العراقي، عن استحقاقات الحساسية الشيعية؟ وهل كان انشقاق حزب البعث إلى جناحين سوري وعراقي، في العمق، إلا انشقاقاً بين عصبيتين طائفيتين؟ وما هو تفسير الهوى الهاشمي والأردني والفلسطيني للبعثية العراقية، في مقابل كراهية البعثية السورية؟ أليس سراً طائفياً؟ وهل يمكننا الفصل الواقعي بين اليسار الفلسطيني والأردني وحساسية عصبية مدنية مسيحية في البلدين؟
هل يمكن إذاً القفز عن ابن خلدون في التحليل الاجتماعي ــــ السياسي الجدّي في بلادنا؟ سؤال لحوار تأسيسي أرجوه لنظرية مطابقة لاحتياجات التقدم العربي.
* كاتب وصحافي أردني