ما في شي اسمو 12 تموز بعكار». هذا ما يخلص إليه المرء بعد جولة استطلاعية للقرى والناس الذين أصابهم العدوان الإسرائيلي هناك بمقتل! كيف ذلك؟ شرحٌ يطول، نختصره هنا بهذا التحقيق الذي يحاول الإحاطة بمختلف وجهات النظر، من أهالي الشهداء الذين سقطوا في قصف الجسور والثكن والطرقات، إلى متضررين آخرين أصيبوا في أموالهم وممتلكاتهم ولم يعوّضوا كما يجب
عكار ــ روبير عبد الله
عشيّة الذكرى الثالثة لعدوان تموز على لبنان، غابت عن طرقات عكار وساحاتها أي صور للمجازر التي ارتكبتها إسرائيل في عدوانها عام 2006. وعبثاً يفتش المرء عن صورة شهيد من شهداء مجزرة الحيصة، أو غيرها لشهداء الجيش في الموقع البحري على شاطئ العبدة، أو لتلك السيارة المدنية التي قصفت على طريق الكويخات، فسقط من فيها بين قتيل وجريح. أما في منازل شهداء عكار، فلم يبق هناك إلا الحزن والبكاء، وسخط تحوّلت وجهته الطبيعية في بعض الحالات.
تدخل منازل أهالي الشهداء بحرص المستعدّ لمفاجأة أعدّها لك مشهد المنطقة الذي وصفناه، لها. في خربة داوود، التي فقدت شهيدين وجرح لها شابان آخران على طريق الكويخات، تجلس إلى جانب والد الشهيد زياد عبود مرعب. الرجل بمثابة والد المصابين الأربعة. فإلى ابنه، هناك ابن أخته وحفيده وابن أخيه. والد زياد لا يشكّ في العداء لإسرائيل، لكن «من حركش وكر الدبابير علينا حتى دهمتنا إسرائيل في أقاصي عكار»؟ يسأل. يبقى كلامه معلّقاً في فضاء الغرفة للحظات. ثم يقف الرجل ليصرخ بأعلى صوته: «طول عمرنا نعرف أن إسرائيل تعتدي والجيش يصدّها في الجنوب وينتهي الأمر. فما الذي حصل؟».
تكمل الجولة. تقصد «ذوق الحبالصة» قرية الجندي الشهيد خالد حبلص. استشهد خالد في موقع للجيش اللبناني مع خمسة من رفاقه العسكريين في منطقة العبدة. تطلب أخت الشهيد عدم التحدث بـ«الموضوع» أمام الوالد الذي أضاعه الحزن، فتتحدث في موضوعات عامة. مع ذلك، كان والد الشهيد يقطع الحديث بمداخلات طويلة يعبّر فيها عن سخطه تجاه ما يراه نفاقاً وكذباً. هكذا، شملت «ملاحظاته»: الدّين، القيم، الأخلاق... يرفض مقارنة عدوانية إسرائيل بحجم التقاتل الداخلي، «لماذا يقال إسرائيل عدوّ وقتلتنا ونحن قتلنا بعضنا بعضاً؟ المسيحي قتل المسلم والعكس صحيح، كما قاتل السني الشيعي والعكس. كفانا ادعاءً وكفانا تنصيب أنفسنا مدافعين عن الدين والوطن». ولا يشير بتاتاً إلى استشهاد ابنه.
«هذا الجو» لا يخفى على والد الشهيد علي طالب، بطل عملية أرنون الاستشهادية التي نفذها الحزب السوري القومي الاجتماعي قبل التحرير عام 2000. يتعالى الرجل الذي يعاني نزفاً في المعدة على آلامه الجسدية من ناحية، والنفسية من ناحية أخرى ليتحدث إلينا. فقد تعرّضت اللوحة التذكارية لابنه الشهيد للتكسير إثر انتهاء العدوان الإسرائيلي بأسبوعين. يذكر والد الشهيد في سياق قراءته لمخاطر ما جرى ويجري من شحن مذهبي وطائفي، أنه آل على نفسه أن ينزع بيده اللوحة التذكارية مرة أخرى، وذلك قبل مجزرة حلبا، حتى لا تكون مصدر استفزاز فتحدث توترات لا طائل خلفها. وهو لا يبرر، ولكنه يرى أن قتل الرئيس رفيق الحريري والتداعيات اللاحقة كانت بهدف جرّ طائفة بأكملها إلى موقع آخر. لا بل إنه حتى لا يبرّئ نفسه، مع أنه ليس في موقع المسؤولية، من التقصير الذي أفقد القوى الوطنية شعبيتها في عكار، كما قال. ويدين انهماك تلك القوى بالإعداد العسكري دون المستوى الفكري للناس.
حسناً، ماذا عن أولئك الذين كانت خسائرهم بالممتلكات؟ هناك أيضاً يتفاوت الموقف. لكن النقاش السياسي يأخذ مجراه بشيء من الهدوء. وبما أن أكبر الخسائر الفردية كانت عند جسر الكويخات، إذ امتد التدمير ليشمل مصانع ومحالّ تجارية تخص آل الحايك، فقد قصدناها. سمّى عدنان الحايك ابنه البكر هادي، حبّاً بالأمين العام لحزب الله حسن نصر الله. كان ذلك قبل حرب تموز. فالرجل وعائلته كانا محسوبين على المعارضة. يدخل إلى الموضوع، كتاجر، من باب حساب خسائره. فيرى أن التعويضات التي حصل عليها كانت أقل من 10 في المئة من قيمة خسائره الحقيقية، وهو يستنكر تقصير المسؤولين معارضة وموالاة، ويحتج على تجاهل النواب قرار الحكومة التي احتسبت التعويض عن المنزل المدمر في الضاحية الجنوبية بـ80 مليون ليرة، فيما لم تتعدّ قيمته 50 مليون ليرة في المناطق الأخرى.
أما ابن عمه، رئيس البلدية عمر الحايك، فلا يزال واثقاً بما وصفه بثوابته، إذ إن «الإسرائيلي عدوّنا ولا شيء يبرّر قصفه للمناطق العكارية إلا الهمجية التي اتّسم بها وهو يقصف سائر المناطق اللبنانية ويدمرها». بل إن رئيس البلدية لا يقيم اعتباراً لتأثّر عكار بالأجواء المذهبية تأثراً كبيراً، وخاصةً في الانتخابات النيابية الأخيرة. فـ«عكار بالنسبة إلى غيرها بألف خير، انتخب الناس وحصل الفريق المعارض على نسبة تعكس وجوده على الساحة العكارية، فيما في المناطق الأخرى جرى ما يشبه إلغاء الآخر»، ولكنه يرفض من جهة أخرى توصيف البعض له بأنه معارض، فهو وأبناء عمّه على صلة مع الجميع و«مصالحنا تقتضي التعامل مع الجميع».
ما زالت شوارع عكار ترفع صور شهداء سقطوا في ساحات النزاع الأهلي اللبناني، كما لا تزال اللافتات توحي بأن الانتخابات النيابية الأخيرة لم تنتهِ. وفي ساحة حلبا، تقرأ على لافتة أن «7 حزيران يوم الوفاء للشهداء». وفي المقابل، في الحصنية وعدبل لا تزال صور مجزرة حلبا تقول إن اتفاق الدوحة لم ينجز، وإن المصالحات جرت على زغل. بل أكثر من ذلك، ثمة من استحضر صور شهداء سقطوا في معارك بين القبيات وآل جعفر منذ أكثر من عشرين سنة! فلماذا التشديد على من سقط في المكان الخطأ؟ ولماذا استحضار المؤلم من التاريخ القريب والبعيد، فيما يجري محو آثار العدوان الإسرائيلي من الذاكرة العكارية؟ سؤال لا يبدو أن عكار اليوم جاهزة للإجابة عنه.