علاء اللامي *النيات العدوانية التركية والإيرانية لا تحتاج إلى أدلة إضافية، إذا ما علمنا بأن هاتين الدولتين رفضتا كلتاهما التوقيع على «اتفاقية الأنهار غير الملاحية» التي نظمتها ووقعتها الأمم المتحدة في مطلع التسعينيات، بينما وقعتها (117) دولة ووافق عليها العراق. كذلك، فإن تركيا رفضت التقيد باتفاقية 1946 التي وقعتها مع العراق، وتلزم هذه الاتفاقية أية دولة تنوي إنشاء سدود على النهرين، دجلة والفرات، بمشاورة الدول المتشاطئة الأخرى والحصول على موافقتها. وقد استمر الرفض التركي بعد عقود، معزّزاً هذه المرة بنوع من الهستيريا العنصرية الطورانية المعهودة، التي رفع شعارها سليمان ديميريل في قوله «إذا كان النفط للعرب، فالمياه للأتراك». وقد رأى حكام تركيا، على اختلاف مرجعياتهم السياسية المعلنة (يمينية أو يسارية، علمانية أو إسلامية)، أن نهر الفرات ليس نهراً عراقياً كما يقول التاريخ والجغرافيا، ولا حتى نهراً دولياً، بل هو نهر تركي عابر للحدود! رغم عدم وجود تعريف كهذا، حيث إن النهر العابر للحدود هو نهر دولي بالضرورة والأمر الواقع.
على الأرض، بلغت الكارثة الإنسانية والبيئية في العراق أمداء خطيرة، وبدأت فعلاً هجرة داخلية من قرى وبلدات ضربها العطش والجفاف إلى أماكن أخرى فيها مياه الشرب. أما رد الفعل الحكومي العراقي على هذه التطورات المأسوية، فقد جاء باهتاً، معتمداً أساليب التوسل والتسول، حيث أوفِد نائب رئيس الجمهوري طارق الهاشمي إلى أنقرة لاستجداء ما يمكنه من مياه الرافدين، فأنعم عليه حكام تركيا كما أشارت صحيفة عراقية بثلاثة عشر متراً مكعباً من الماء في الثانية، رافعة بذلك كمية الإطلاقات المائية من 500 متر مكعب إلى 513 متراً مكعباً ـــــ يا لصلافة الطورانية المتخلفة التي كدنا ننسى مذاقها العثماني ـــــ على أمل أن ترفعها إلى ما هو أكثر «مستقبلاً»، فيما تقدَّر حاجة العراق الدنيا بأكثر من 950 متراً في الثانية، وهي الكمية التي كانت تجتاز الحدود العراقية السورية قبل سنوات قليلة، كما يؤكد المدير العام المركز العراقي لإدارة الموارد المائية.
أما رد الفعل البرلماني العراقي، فكان أكثر شحوباً من موقف الحكومة، حيث دعا أحد قادة الكتل البرلمانية الرئيسية ورئيس لجنة العلاقات الخارجية فيه، إلى تأليف لجنة طوارئ، نُسي موضوعها بعد يومين على تأليفها ولم يعد يتذكرها أحد. وأوصى البرلمان بتأجيل التصويت على اتفاقية الشراكة الشاملة التي تحصل تركيا بموجبها على 20 مليار دولار إضافي، علماً بأن عائدات تركيا من مرور النفط العراقي في أراضيها يقرب من ثلث دخلها القومي، ومع ذلك فلم يقترب أحد النواب أو المسؤولين في حكومة المحاصصة الطائفية من هذه الورقة المهمة.
إنّ خطورة الوضع في العراق وردود أفعال السلطتين التشريعية والتنفيذية ـــــ في ظل احتلال أجنبي لا يأبه كثيراً إن فاض الرافدان أو غارا ـــــ تستدعي من القوى الوطنية العراقية الأخرى ومن جمهور المثقفين والخبراء المتخصصين في هذا الشأن، اهتماماً وتحركاً سريعاً وفعالاً يدفع المسؤولين إلى التحرك لتفادي الكارثة المحدقة. أما بعض القوى المناهضة للاحتلال، التي لا يبدو أنها تجد نفسها معنية بهذا الموضوع، فعليها أن تسجل على أقل تقدير موقفاً مما يحدث. فالسلطة التي تركض وراءها ـــــ كاملة أو مقسومة بين فصائل وأطراف عديدة ـــــ في عراق لا أنهار ولا مياه فيه، لا تساوي شروى نقير.
أما الدعوة إلى استعمال النفط العراقي في معركة الوجود هذه، فسلاح ذو حدين. فهي قد تجبر السلطات التركية على التراجع مؤقتاً وإطلاق المزيد من المياه العراقية المحجوزة خلف جبال الإسمنت المسلح، لكن من جهة أخرى ستغير قواعد اللعبة وتوجِد سابقة خطيرة، حيث ستبدأ تركيا بالتعامل مع العراق على النحو الآتي: نطلق نحوكم من المياه بمقدار ما تطلقون نحونا من نفطكم... وهذه معادلة خطيرة وظالمة، لا بد من كسرها، وتغيير قواعد الصراع بالدعوة إلى تدويل موضوع مياه دجلة والفرات، ورفع القضية إلى محكمة العدل الدولية، الأمر الذي رفضته تركيا على الدوام، ورفع القضية إلى الأمم المتحدة والهيئات الدولية بوصفها قضية عدوان واضح وحرب إبادة فعلية رغم أنها غير معلنة.
لقد باتت الكارثة معروفة على نطاق عالمي. وغطرسة حكام تركيا وأنانية حكام إيران ليستا بحاجة إلى المزيد من الشواهد والأدلة المادية. وعلى من يتصدر ويتنطح لقيادة العراق في هذا الظرف العصيب أن يفكر بجميع الاحتمالات والخيارات الممكنة، بما فيها التهديد بتدمير السدود التركية العملاقة إذا فشلت جميع الجهود والمحاولات السلمية والدبلوماسية.
* كاتب عراقي