عبد الأمير الركابي *تراجع نشاط القوى المعارضة العراقية في الخارج بقوة وسرعة لافتتين. فخلال بضعة أشهر، أصبح إجمالي حضور تلك القوى قريباً من الاختفاء التام. ولن يضاف جديد إذا قلنا إن السنة الحالية من مسار الوضع العراقي قد عرفت انعطافاً لم تسلم من أثره أيٌّ من القوى والتيارات العراقية، سواء في الداخل أو الخارج، الحاكمة منها والمعارضة.
فمنذ شهر آذار الماضي، أعلن أحد الداعين إلى عقد مؤتمر للقوى المناهضة للاحتلال عجزه عن عقد مؤتمر كهذا. كان هو قد وزع دعوات على العديد من الجهات والأشخاص ممن تعودوا حضور دعواته الموجهة باسم المركز الفكري الذي يترأسه، إلا أن قلة ضئيلة لا يمثّل حضورها أي مغزى، وافقت على المشاركة. وهو كان قبلها قد ألف «لجنة تحضيرية» وعقد اجتماعاً أول في بيروت، غير أن مساعيه انتهت إلى الفشل، وهو ما صرح به علناً لوسائل الإعلام.
ومنذ أسابيع، أعلن في بغداد حل «المؤتمر التأسيسي» من أمينه العام جواد الخالصي، الذي اختار أن يتحول إلى مرجعية دينية، وكأن هذه ملجأً احتياطياً متوافراً في تحصيل حال تسهل العودة إليه بعد ست سنوات من العمل السياسي والفشل الذي وصل إليه تأليف أُقيم في ظروف ملتبسة، مع أنه كان يُعَدّ إعلامياً من أهم تنظيمات المعارضة، وما سُمّي القوى المناهضة للاحتلال، لكنه اتسم بالتعبير عن مظاهر صعود الأطراف الدينية والطائفية وميلها للهيمنة على الوضع السياسي عموماً، في المعارضة كما في السلطة. ولتلك الأسباب، تكرست في حينه زعامة «هيئة علماء المسلمين» على المؤتمر التأسيسي المذكور، بعد إضفاء صفة شيعية شكلية عليه من خلال منصب الأمين العام.
هيئة علماء المسلمين، ممثلة بالشيخ حارث الضاري، وافقت أخيراً على تفويضٍ إلى بعض فصائل «المقاومة» يجيز للأمين العام للهيئة التفاوض وعقد الاتفاقات باسمها، وتمثيلها في المحافل ولدى الأطراف المختلفة. وبهذا تقلص مدى تمثيل المقاومة التي ظلت بمثابة خلفية يوحي بالانتساب إليها والتحدث باسمها أحياناً قطاع واسع من العلمانيين وغيرهم، إضافة إلى «البعث» وقوى أخرى. وهكذا، فالحصرية التمثيلية الجديدة لا يمكن عدها تقدماً في موقع المقاومة والقوى المناهضة للاحتلال معاً. وأما ما يخص موقع هيئة علماء المسلمين وأمينها العام، فإن طابعها الشرعي والديني الذي طالما ذكّرت به وادّعته، أصيب الآن بهزة قوية تصل إلى حدّ تغيير موقع الهيئة ونوعية مهامها. والأخطر أن التفويض والقبول به قد أخذا المقاومة والهيئة معاً صوب المزيد من التخندق الطائفي. وما زال التصادم بين الهيئة وأمينها العام من ناحية، وتيار عزت الدوري من ناحية أخرى، مؤجلاً. لكن إلى متى سيستمر قبول الدوري بهذه الحالة، وهو الحريص على تقديم نفسه شيخاً للمجاهدين والناطق الأعلى باسم المقاومة؟ فهل يبادر «البعث» إلى رفض تمثيلية الضاري، وتتعدد مستقبلاً رسائل التفويض إلى الدوري كما للضاري، وصولاً إلى أنواع أخرى من التفويض الشيعي مثلاً، من بعض الفصائل المقاوِمة الشيعية، وحتى العلماني من الفصائل العلمانية القومية أو غيرها. وبدل ما شاع في الشوط الماضي من افتراق بين المعارضة ومناهضة الاحتلال السياسية من جهة، والمقاومة المسلحة من جهة أخرى، ندخل من هنا فصاعداً عهد القوى المسلحة التي تفوض عنها مندوبين وممثلين محددين؟
لن يزيد هذا التطور الأخير أوضاع القوى المناهضة للاحتلال إلا ارتباكاً. ما دامت القوى المذكورة لم تبد أي استعداد لمواجهة المستجدات والتطورات اللاحقة المتوقعة، أو تعيد النظر في المراهنات التي تواصل التمسك بها. ومرة أخرى، تطغى الخطوات العملية والإجرائية على استجابات وردات فعل قوى هي أحوج ما تكون، وبسرعة، إلى بلورة مواقف فكرية وسياسية تتعلق بضرورات تجديد المنظور والمقاربة الوطنية، بدل الشعارات وإطلاق التصورات الإنشائية المبالغة، أو المكررة، المستمدة من بقايا مفاهيم جاهزة لم تعد تصلح للاستعمال. ومن الناحية المباشرة على الأقل، قد يكون من العقلاني والمناسب المبادرة إلى تعيين المعطيات المستجدة التي طرأت أخيراً على الواقع عموماً، وواقع المعارضة خصوصاً، وأهمها:
1 ـــــ تراجع فاعلية المقاومة المسلحة بعدما أُصيبت حاضنتها الاجتماعية بالاهتزاز العنيف ولم تعد موحدة إزاء الموقف من العمل المقاوم.
2 ـــــ الميل المتنامي عراقياً، على المستوى الوطني العام، إلى «العلمانية الموضوعية»، وهذا التعبير الأخير يحتاج إلى وقفة لاحقة لتبيان أبرز ملامحه، مع أنه يوحي أصلاً بالميل التوحيدي المدني المتبنّى بناءً على الضرورة الوطنية وفعل الحقائق الثابتة، بغض النظر عن التنظيرات العلمانية مهما كان شكلها.
3 ـــــ غياب الحركة الوطنية المواكبة للتطور العفوي الأخير، واستمرار فعالية أفكار وتصورات تعود إلى زمن ماضٍ من تاريخ الحركة الوطنية وتراثها، لم تعد صالحة لاستيعاب ضخامة التجربة الوطنية والظروف الكارثية التي يعانيها العراق اليوم.
وهذه الأسباب ليست عرضية، بل جوهرية، وكل منها يمكن أن يكون بمثابة إشارة تغيير كبير ونوعي. وحين تجمعت معاً على مشارف السنة السادسة من تاريخ الغزو والاحتلال، فإن القول بحصول منعطف ضمن تاريخ الاحتلال والواقع الوطني يصبح دقيقاً، وخاصة إذا ما أضيفت إليها تطورات أخرى مثل احتمالات الانسحاب الأميركي، والأهم من ذلك والأكثر دلالة، الاحتمال الأخطر الذي يمكن أن ينجم عن حصول مثل هذا الانسحاب بناءً على ترتبات الاتفاقية الأمنية التي عقدتها الحكومة القائمة مع الاحتلال الأميركي، بعدما تراجع إلى أبعد حد احتمال تحقيق الانسحاب المذكور على يد المقاومة المسلحة، الأمر الذي يهدد بتغيير شامل في التوازنات ومواقع القوى، ويضعف بالدرجة الأولى وزن القوى المساندة للمقاومة، التي قام وجودها أصلاً على تلك المساندة والتعبير عنها سياسياً. والمشكل الأكبر الذي يترجم الآن تراجعاً في وضع المعارضة، ناجم عن كون هذه القوى لم تكن خلال فترة تأييدها وتبنيها لعمل المقاومة قد أدت دوراً ايجابياً مستقلاً ومؤثراً. فهي لم تكن تملك أي رأي بخصوص العمل المقاوم، وكانت تكتفي بالتأييد والشعارات، ولم يعرف عنها أنها سعت إلى وضع أي تصورات ذات طابع مواكب ومؤثر، فضلاً عن أن تكون قائدة فكرياً وسياسياً لعمل مقاوم نشأ ـــــ وما زال ـــــ وهو يفتقر إلى هذا الجانب الحيوي والحاسم بالذات.
والآن لا نعثر بعد تراجع المقاومة على من يتصدى من تلك القوى للحالة ويرى كيفية مواجهتها. فلا اقتراحات ذات طابع عميق وشامل، ولا مبادرات من شأنها أن تثبت قدرة ما على التفاعل مع المتغيرات، وكل يوم يمر، تفقد هذه القوى أي دور أو فعالية في الخارج، حيث توجد في الغالب، فضلاً عن الداخل. وحتى لو كانت هنالك مقترحات أو مبادرات وُضعت بقصد الخروج من المأزق الحالي، فإن هذه القوى تقابلها برفض عصبي، وردة فعل مبنية في الغالب على حجج غريبة وواهية، لا تستند إلى المنطق وعالم المسؤولية وخبرة التاريخ الوطني. فمثلاً، من الغريب أن لا أحد ناقش بعقلانية وحرص اقتراح العودة إلى الداخل والعمل على أرض العراق بناءً على مشروع محدد قابل للنقاش على المستوى الوطني العريض. ترى هل بقي لهذه القوى أي طريق آخر؟
* كاتب عراقي