علي محيي الدين *شكّلت نتائج الانتخابات النيابية، ولا سيما بما يختص بنتائج حصيلة الأرقام التي نالها مرشحو الحزب الشيوعي، فاجعة لكل المناضلين غير الطائفيين وبشكل أدق للشيوعيين المناضلين بمسؤولية، والملتزمين بقناعة، والحاسمين بخياراتهم بقضية الحزب ودوره وأهدافه. فاجعة كشفت حجم المشكلة ـــــ الأزمة بعمقها وعقم القيادة التي أوصلت الأمور إلى ما وصلت إليه، من حالة مزرية. لذلك، لا بد لأي عاقل إلا أن يتوقف عند هذه النتيجة ويبحث عن الأسباب التي أدّت إليها لتحديد مكامن الخلل كي يتحدد العلاج الناجع، حيث يفيد البكاء على الأطلال والتهرب من المسؤولية.
وللتذكير فقط، فقد بدأنا بعد الطائف بـ 14% من حجم الأصوات حيث إن النتيجة حالياً هي 2,5% كما حددها الأمين العام للحزب. وربما يعود ذلك بالنسبة للحزب، إلى ما اتسمت به الانتخابات من فساد وإفساد ورشوة وتدخلات من الخارج قبل الداخل، إضافة إلى الانقسام العمودي الغرائزي المذهبي. لكن أيضاً، من الأسباب التي أدت إلى هذه النتيجة المفجعة، عقم أداء القيادة وقصورها، والانفصام في عملها بما يتعارض مع ما قاله ماركس (التلازم ما بين النظرية والممارسة). وهنا لا بد من الإشارة إلى النقاط الآتية:
1 ـــــ منهجية التقوقع والانعزال ومجانبة المسائل وتمييعها بهدف عدم التقويم والبحث في كل محطة أو قضية عبر عدم إدراجها على جدول الأعمال بهدف الهروب إلى الأمام. وهذه ممارسة خاطئة أصبحت مع الوقت خطايا بحق الحزب وفلسفته وأهدافه ودوره وحضوره.
2 ـــــ الآذان الصمّاء بتعليق عمل المؤسسات حيث بقيت موجودة بالشكل، أما في المضمون فقد أُفرغت من دورها وفعاليتها.
3 ـــــ غياب ممارسة النقد والنقد الذاتي الذي يعتبر العمود الفقري لحياة الحزب الداخلية.
4 ـــــ فعلياً، عدم احترام الرأي مما أفقد فعالية عمل الهيئات كقيادة جماعية متكاملة.
5 ـــــ تعطيل نشاط كل هيئة أو فرد، أكان في النشاط الحزبي المباشر أم في المنظمات الديموقراطية على أنواعها، بحيث أخذت الطابع الفردي، بالإضافة إلى غياب آليات المراقبة والمساءلة والمحاسبة بما سمح لحالات انتهازية أن تستشري. هكذا أصبحنا مبعثري الرؤية وطغت المصالح الخاصة على حساب الحزب ـــــ القضية، فصارت الميوعة وهي الحالة السائدة رغم أنها مناقضة لمفهوم الإنسان الشيوعي بقيمه وإنسانيته وثقافته وقوة التزامه وتفانيه لتحقيق الأهداف. وبشكل فاقع، أصبح الحزب واقعياً على طرفي نقيض مع صورته التي قدمت إلى المجتمع عبر تاريخه ورموزه في إبرازه للقضايا وربطها بجدلية خلاقة للصراع الطبقي على جميع الصعد.
إن انكشاف عمق الأزمة التي وصل إليها الحزب تدعو إلى انخراط الشيوعيين، كادرات وأعضاء، إضافة إلى المعتصمين والمنكفئين في منازلهم، في ورشة حوار ونقاش جدي ومسؤول لملامسة كل الأسباب التي أدت إلى الأزمة (باستثناء المرتدّين والفاسدين) وصولاً إلى خلاصات تصحيحية تعيد الحزب إلى سكّته السليمة استناداً إلى تاريخه وأساليب العمل التي امتاز بها عبر حركته النضالية على قاعدة إبراز الصراع الطبقي على كل الصعد بجدلية خلاقة في النشاط السياسي المباشر وانخراطه في جميع المجالات الوطنية والمطلبية والثقافية والإعلامية والأدبية والشبابية والنسائية والطلابية. كل ذلك بهدف تحقيق العدالة الإنسانية. هذا ما ميّز الحزب بمروحته الواسعة بحيث شكّل حالة جماهيرية شعبية واسعة وفرض انتزاع الحريات العامة والنقابية وما توافر من آليات ديموقراطية إضافة إلى كمّ كبير من تشريعات وحقوق ومكتسبات، الكثير منها أصبح حبراً على ورق.
تقتضي المسؤولية معالجة جدية لإصلاح البيت الداخلي بإنهاء هذه الحالة القائمة المتّسمة بالانغلاق والانعزال والتقوقع والانسحاب من الحياة العامة التي تتناقض مع فلسفتنا وأهدفنا وآليات انخراطنا في مجمل جوانب الحياة النضالية الجذرية بإعادة تحديد الثوابت والتوجهات في توحيد الخطاب الذي ينبغي أن يترافق ويعكس بوضوح التعبير عن الآليات التنفيذية لنشاط الشيوعيين على جميع الصعد بما يخدم التغيير الديموقراطي للنظام السياسي والانتقال إلى الدولة العلمانية الديموقراطية بفصل سلطة رجال الدين عن الدولة والسياسة على قاعدة الدين «لله والوطن للجميع» بحيث إن الانتماء للوطن وضمان حقوق المواطنة عبر إلغاء الطائفية السياسية، مدخلها اعتماد قانون انتخابي مرتكزه اعتماد النسبية، ووضع روزمانة تشكل برنامجاً ومراحل انتقالية لتحقيق العدالة الاجتماعية.
ويتطلب هذا المشروع إبراز خيار المقاومة الشاملة، أي الترجمة العملية لمضمون وثائق المؤتمرات بما يتوافق مع خياراتنا برؤية واضحة وآليات ملموسة، وبما يؤمن أساليب المواجهة للتحديات والمخاطر التي تحدق بلبنان والمنطقة العربية بما يجدد التعاقد ما بين العمال والفلاحين في حركة النضال وقيام تكتل اقتصادي عربي منتج بالانتقال من حكم العائلات إلى حكم الشعب بإنجاز التحرير وتحقيق العدالة واعتماد آليات ديموقراطية وضمانة للحريات العامة. كل ذلك يتطلب التحضير الجدي والمسؤول لإعادة بناء حركة تحرر عربية وحركة جماهيرية شعبية ديموقراطية من خلال الإعداد لوثيقة تاريخية كما حصل في عام 1931، ولعلّ الذكرى تنفع والواقعة هي:
الوثيقة المنشورة في مجلة «المراسلات الأممية» عام 1933، صدرت عن اجتماع «كونفرانس» بين الحزب الشيوعي في سوريا ولبنان والحزب الشيوعي الفلسطيني، وقد أدرجوا فيه أوضاع مختلف البلاد العربية، والمسألة الأساسية التي هي المسألة الوطنية (القومية) العربية وصاغوا استنتاجاتهم في هذه الوثيقة النظرية التاريخية، عنوانها: مهمات الشيوعيين في الحركة الوطنية العربية.
يستدعي هذا الواجب والمسؤولية إنجاز تطوّر مفصلي تاريخي أكثر من ملحّ لاستعادة دور الأحزاب الشيوعية وفتح أفق تعاون وتحالف مع القوى الأخرى من خلال وضع مشروع مناهض للمشروع الأميركي ـــــ الصهيوني، مرتكزه خيار المقاومة نهجاً وممارسة بمضمون المقاومة الشاملة من سياسية واقتصاد واجتماع وفكر وثقافة وعسكر، ولنأخذ العبر من تاريخنا المعاصر في تجربة الحركة الوطنية اللبنانية وجبهة المقاومة الوطنية اللبنانية التي تكاملت مع الجوانب النضالية لتحقيق الأهداف. ولنذكر عبرة الرئيس جمال عبد الناصر الذي استقال عندما خسر حرب 1967. هكذا يتصرّف الكبار في تحمل المسؤولية ومواجهة النصر والخسارة. هل من يعتبر؟
إن اللحظة مهمة ومهمة جداً، والمسؤولية تستدعي فتح ورشة حوار منظّم وهادف لتحديد الثوابت والأهداف ووضع الآليات، كون الحزب وقوى اليسار هم الحلقة المفقودة في الحراك السياسي العام، وصولاً إلى عقد مؤتمر استثنائي حقيقي... لأنّ المسؤولية لمن يتحملها لا لمن يحملها.
* نقابي لبناني