معمر عطوي *طرحت الأحداث التي شهدتها إيران خلال الأسابيع الأخيرة أسئلة جوهريّة بشأن مفهوم «الستار الحديدي» ونجاعته، في ظل ثورة الاتصالات والمعلوماتية، التي جعلت العالم قرية كونيّة واحدة. وبدا من خلال سياسة التعتيم التي قامت بها الجمهوريّة الإسلامية، على ما يجري داخل طهران وبعض المدن من احتجاجات واعتقالات وقمع وقتل، أنّ هذه السياسة تضرّ بسمعة النظام وتزيد من نقمة الداخل وشماتة الخارج، بدلاً من إخفاء معالم «جريمة مفترضة».
ذلك أن الصمت عمّا يجري، أو عدم إيضاح بعض الالتباسات التي تظهر عن حادثة هنا أو عملية اعتقال هناك أو جريمة قتل هنالك، يزيد من مساوئ الحدث، ويعرّض النظام لجرعة أكبر من الاتهامات المسنودة بتقارير أصبحت بفعل الانتشار الإلكتروني مُتاحة للجميع. بل هي وجدت الساحة أمامها مفتوحة لتتسلل من دون محامي دفاع، إلى ما خلف الحدود، حيث تتوثّب جمعيات حقوقية ودول ومنظمات سياسية ومدنية وراء منصة محاكمة جاهزة بكل الملفات والحيثيات، لاتهام النظام الإسلامي.

حاول أوباما حفظ «خط الرجعة» مع إيران بما أنه لا يمكن تسوية الملفات الحساسة من دون التفاهم معها
هكذا بدا المشهد منذ 12 حزيران، حين نزل أنصار المعارضة الإيرانيّة إلى الشارع على اختلاف توجهاتهم وتطلعاتهم، للاعتراض على نتيجة الاقتراع للرئيس محمود أحمدي نجاد، لولاية ثانية. بدا المشهد كأن المعركة هي بين حكومة دينية متشددة تفرض قادتها على الشعب بالقوة، ودعاة للحرية وللدولة المدنية العصرية التي لا تستقي مبادئها من أسس لاهوتية وميتافيزيقية. بطبيعة الحال، كان المشهد يضم بعضاً من هذه العناصر، من دون أن يختصر النزاع بمحوريتها. فالاستغراق في ما نقله «الفايسبوك» و«تويتر» و«يوتيوب» من تقارير وصور عمّا يجري في الشارع، لم يكن إلا صورة مشوّهة لواقع معقّد في الأصل، لا يمكن اختزاله بشعار «أين صوتي؟»، أو «نجاد ديكتاتور» أو «الباسيج قتلونا». حالة بكائية، ربما عرفت المعارضة كيف توظّفها لمواجهة الحكومة، وتمكّنت الدول التي لها تاريخ من العداء مع النظام الإسلامي، من استغلالها، لكنها لم تكن سوى أداة تعويم لتيارات هي في الأصل غير متّفقة على برنامج واضح بديلاً لنظام الملالي.
كان ينقص هذه الطفرة الإعلامية المستحدثة، التي عوّضت عن سياسة التعتيم وكسرت عنق الرقابة المحليّة، أن تحمل في المقابل مشروعاً واضحاً لما يريده الإيرانيون من نظامهم، ومعرفة طبيعة الديموقراطية الشعبية التي يؤمنون بها. إذ إن مقولة التزوير لا يمكن أن تصمد أمام الفارق الكبير بين ما حازه المرشّح الأول الأصولي (محمود أحمدي نجاد) والمرشّح الثاني الإصلاحي «قسراً» (مير حسين موسوي). فحين نجد أن أكثر من عشرين مليوناً من الشعب الإيراني يختار التشدد والنظام الإسلامي، بما فيه من ولاء لشخصية «قداسوية» شبه معصومة، ممنوع عليهم مناقشتها، وحين تبنى المعتقدات على أساطير تحرّك الوعي الجماعي نحو عالم طوباوي طهراني «خال من الظلم والجور ومليء بالقسط والعدل»، لا يمكن الوقوف ضد إرادة من يختار ذلك، سوى بالمنطق والحوار، من منطلق احترام اللعبة الديموقراطية.
بالتالي تصبح حركة الشارع، ممثلة بالشباب والشابات، الذين تمنّوا لو تطول هذه التحركات لسنوات، مستغلين فرصة الفوضى وغياب الرقيب ـــــ الفتيات والشبان في الشارع معاً، يرقصون ويغنّون ويصرخون بشعارات سياسية قد لا تكون من أولويات أهدافهم ـــــ تعبيراً يؤكد ميل الجيل الذي لم يعش مناخات الثورة والالتزام بمبادئها، نحو مزيد من الاختلاط والتعبير عن الهواجس، وعيش مرحلة المراهقة والشباب من دون أي كبت أو قمع أو تابوهات.
ماذا يعني أن يرفع المزيد من شباب طهران، وبالتحديد الجزء الشمالي من العاصمة الإيرانية حيث غالبية المؤيّدين للإصلاح، الرايات الخضراء تعبيراً عن تأييدهم لمير حسين موسوي؟ هل هم أغبياء إلى هذه الدرجة حتى يجهلوا أن المرشّح الإصلاحي هو في الأصل محافظ ومتديّن ومتشدد في أفكاره وقناعاته على غرار الرئيس الذي يرفضونه؟ أم أنهم صدّقوا لعبة الإصلاحيين الذين خذلوهم خلال ولايتين كان خلالها الرئيس السابق محمد خاتمي أشبه بالمحافظين، لولا بعض الضغوط التي رفعها نسبياً من الشارع، لمصلحة الحريات، ولولا تكراره الدائم لمقولة فلسفية، لم تجد طريقها إلى الحقل السياسي، على غرار «حوار الحضارات».
في معزل عن الشعارات التي طرحت، ومعظمها مشروع ويؤكد نبض الشارع وميله نحو التغيير، كان لا بد خلال أسبوعين من العنف والمواجهات، التي شهدتها إيران وبالتحديد مدينة طهران وضواحيها، من رصد عوامل التدخّل في هذه الأحداث، خارجياً، وأسباب تمظهر قوى غير معهودة في الساحة، داخلياً. وبين الخارج والداخل علاقة عضوية لم تنفصل عراها رغم ثلاثين عاماً من سيادة الجمهورية الإسلامية.
على المستوى الخارجي، بدت الولايات المتحدة، التي من المفترض أن تكون المعنية الأولى بالتغيير في إيران، في موقف حرج وخجول، لا يتناسب مع «عظمة» الإمبراطورية الممتدة إلى ما وراء البحار. لقد وضعت خيارات الانفتاح والحوار مع «العدو اللدود» ورأس محور الشر، على محك الصدقيّة في مباشرة الحوار، ما يمنع مساهمتها السافرة مباشرة في استنهاض «ثورة مخملية» ضد النظام الإسلامي. خطوة قد تعوق سياستها الجديدة، التي لا يبدو أن ثمة بديلاً منها في ظل فشل خيار الحسم العسكري.
لذلك بدت تدخلات أميركا بالوكالة، ومن خلف حُجب، رغم انتقادات الجمهوريين. وكان ذلك محاولة من الرئيس باراك أوباما لحفظ «خط الرجعة» مع الجمهورية التي لا يمكن تسوية الملفات الحساسة في الشرق الأوسط من دون التفاهم معها. أمّا وكلاء واشنطن في هذه الحرب، فكانوا موزعين على جهات عديدة، أدّت دوراً أمنياً بحدود خفيفة جداً، فيما كان للإعلام الحصة الأكبر من هذه المعركة، التي نجحت نسبياً في فضح بعض آليات النظام الأمنية في التعاطي مع شعبه. وكلاء يمكن أن تتقاطع مصالحهم مع مصلحة الاستخبارات الغربية، على غرار الأقليات العرقية في بلوشستان وكردستان وخوزستان، من دون أن يعني ذلك عمالتهم للخارج. في الدرجة الثانية، تأتي الجمعيات الحقوقية وتلك المتعلقة بالدفاع عن حقوق الإنسان، والمنظمات الأهلية وبقايا حاشية النظام الشاهنشاهي البهلوي، والتي تجد في بعض عواصم الغرب متنفساً لها للصراخ ضد الملالي، سواء من خلال نشاطات منظمة ومدروسة ومدعومة من كبريات المنظمات الدولية، التي ترعى «ثورات» مخملية وبرتقالية وناعمة، خلف الأسوار الحديدية. ويمكن لحظ غياب الأحزاب اليسارية، وهي عريقة في التجربة السياسة الإيرانية، وخصوصاً «حزب تودة» الشيوعي، عن المشهد السياسي. أمّا عن الموقف العربي الصامت، الذي اكتفى بتحريك آلاته الإعلامية في السعودية ومصر والأردن، فوفّر على نفسه ارتكاب سخافة رشق الزجاج من بيوت الزجاج، بما يشبه سخرية المرأة المنقّبة من مرتدية التشادور، بما أن هذه الدول لا تعرف الديموقراطية أساساً.
لعلّ الدور الأكبر الذي أدّته بعض العواصم الغربية وإسرائيل، وكالة عن واشنطن، التي تأخر موقفها حوالى أسبوعين عن اللحاق بأقرانها الغربيين، كان يسير في اتجاه مدروس مع إدراك تام لمحدودية الحركة والتأثير على الواقع الإيراني الصلب. على كل حال، حاولت كل ألوان الطيف السياسي والثقافي، وإلى حد ما الإثني، أن تجد لها موطئ قدم وسط هذا الزحام، حتى ولو من خلال استغلال بعض ما نشرته مواقع الإنترنت، لكنها لم تنجح في السير قدماً، حتى في استغلال مقتل الشابة نِدا سلطاني، لما للواقع السياسي الإيراني المتشابك مع العامل الأمني الحساس من تعقيدات لا يمكن من خلالها الجزم بصدقية «خبر النت»، كأداة لنجاح ثورة مخملية مفترضة.
بيت القصيد هنا، أن ثمة معركة تتصاعد بين تيارين ينسجان أفكارهما من قماشة واحدة. هذه المعركة عززتها شعبية كلا التيارين واندفاعهما نحو تأكيد حضورهما أو الدفاع عن مصالحهما. وبالتالي، كان هناك من يستغل هذا الموقف وسط حركة الشباب الذي يتمتع بقضيته الخاصة، لعلّه يحظى ولو بفُتات من كعكة «الثورة الناعمة»، التي بدت بوضوح من غير أفق.
* من أسرة الأخبار