تحدّوا الوعر، وغرسوا أكثر من ثلاثة ملايين شجرة كرز في أعالي جرود عرسال، فأغدقت الشعاب عليهم بستة آلاف طن من الثمار المميزة سنوياً. لكن الدولة غابت عنهم، ليصرّفوا أكثر من 70% من إنتاجهم للأسواق السورية
عرسال ــ رامح حمية
هناك في عرسال، وعلى ارتفاع يتراوح بين 1400 و1800 متر عن سطح البحر، ثمة مزارعون يناضلون منفردين منذ منتصف القرن الماضي من أجل الحفاظ على مورد رزقهم الوحيد المتمثل بأكثر من ثلاثة ملايين شجرة كرز تعطيهم سنوياً 6000 طن من الكرز الجردي المميز الطعم، وذلك كله في ظل غياب الدولة، سواء لناحية الدعم التنموي بما فيه تأمين وإنشاء البنى التحتية أو الإرشاد الزراعي. لم يكتفوا بزراعة الأشجار المثمرة، بل يسعون وبقدرات محدودة لتحسين منطقتهم عبر تحريجها بأنواع مختلفة من الشربين والأرز والسرو.
المزارع عبد الله الحجيري، الذي يملك 3000 شجرة مثمرة (800 منها كرزاً) يفاخر بأن «والده وعمه هما أول من غرسا شتول الكرز في جرود بلدة عرسال عام 1956، وذلك على الرغم من الصعوبات الكثيرة التي كانت تعترض طريقهم، بدءاً من وعورة المنطقة، مروراً بجني المحاصيل ونقلها على الحمير وبيعها بواسطة الرعاة عبر الحدود السورية، وصولاً إلى عدم دعم الدولة لهم. ويؤكد أبو صخر أن زراعة الكرز ونجاحها دفعا سائر أهل البلدة إلى استصلاح أراضيهم وشعابهم وغرسها بشتول الكرز. وأكد الحجيري لـ«الأخبار» أن «الدولة لا تهتم بزراعتنا على الرغم من نجاحها وتميّزها»، ويقول: «لبنان ضد المزارع، فالدولة والتجار يحاربون المزارعين، فلا وجود لدعم أو إرشاد زراعي، أو حتى تعبيد للطريق الذي يوصلنا إلى أراضينا»، موضحاً أن الغبار المتطاير من الطريق يقضي على «ثلث الكرز العرسالي»، ما يضطر المزارعين لشراء الزيت المحروق بكميات كبيرة سنوياً ورشّه على الطريق خلال فترة جني الثمار. من جهة ثانية، لفت الحجيري إلى أن بعض المزارعين في عرسال يهتمون حالياً بتحريج جرودهم بالشربين والأرز، ولكن بشكل «محدود جداً» بالنظر إلى النقص في تأمين الغروس، موضحاً أنهم عالجوا «بطريقة رضائية» عمليات الرعي الجائر من الماعز، و«بشكل ودي، نحافظ فيه على المزارعين وأرزاقهم، والثروة الحيوانية التي لا يمكن التغاضي عنها، وخاصة أن في عرسال 45 ألف رأس ماعز تعتاش منها 165 عائلة».
المزارع محمد غدادة، الذي يملك 800 كعب من الكرز زرعها منذ أكثر من 35 عاماً، أوضح أنه يعوّل سنوياً، كما غالبية أهالي عرسال، على مواسم بساتينهم المنتشرة على ثلاثة مستويات من جرود البلدة، وذلك بهدف الحصول على 5 مراحل من الإنتاج، بدءاً من بداية شهر حزيران وصولاً حتى منتصف تموز الجاري، مؤكداً تميّز الكرز العرسالي بقوله إنه «لا يضاهيه أي كرز حتى ذلك الذي تنتجه عيون أرغش وقعفرين، فهو طبيعي ولا نستعمل أي نوع من المبيدات أو الكيماويات لإنتاجه، بل نكتفي بالسماد الحيواني أو بزراعة بقوليات بالقرب من جذوع الأشجار»، ويعزو غدادة تمايز الكرز العرسالي، لا إلى الطعم المميز فقط، وأنواعه (السكري ـــــ الطلياني ـــــ الفرعوني ـــــ البني)، بل إلى قدرته على تحمل ظروف السفر والنقل الخارجي (البرادات) أكثر بثلاثة أضعاف من بقية الأنواع الموجودة في المناطق اللبنانية، ما يجعله مرغوباً في الدول العربية ـــــ الخليجية». غدادة لم ينس غياب الدعم من الدولة اللبنانية أسوة بالذي تقدمه سوريا لمزارعيها، مؤكداً أن 70% من الكرز العرسالي يذهب إلى سوريا، فيما الثلاثون في المئة الباقية تذهب إلى طرابلس، ويعزو السبب في ذلك إلى أن المزارعين السوريين «وهم على بعد عشرات الأمتار عنا يتمتعون بالدعم الكافي من دولتهم، إذ تتسلّم الكرز منهم بسعر 300 ليرة سورية، بينما يشترونه منا بـ 150 ليرة، مضيفاً بالقول: «حتى «شرحات» البلاستيك (اللبنانية) لا ينقلون فيها الكرز العرسالي، بل بـ«شرحات» من «الفلين» من الصناعة السورية، لكون السلطات السورية تمنع ذلك وتقف عندها بوجه شرائه بعد تهريبه».
من جهته، أكد المزارع محمد الفليطي الذي يملك 5000 كعب شجرة مثمرة أن وزارة الزراعة «لا تعطينا شيئاً، فهي قائمة على المحسوبيات لأشخاص محددين، بحسب المنطقة التي ينتمي إليها الوزير»، قائلاً: «نحن لا نطلب الكثير، بل فقط طريقاً نصل فيه إلى أراضينا ومواسمنا، وجرافات تساعدنا كما في سوريا على استصلاح بعض الأراضي بغية تحريجها واستغلالها»، فضلاً عن مطالبات عديدة بإقامة برك صناعية في الجرد العالي، علماً بأن ذلك سيفيد المزارعين والرعاة بدلاً من أن تذهب مياه الثلوج التي تبقى جارية حتى منتصف الصيف هدراً. ويلفت الفليطي إلى غياب الدور الرقابي الذي لا تقوم به الدولة، فالشركات في زحلة تبيع الدواء بـ 12 ألف ليرة، فيما الصيدليات الزراعية في المنطقة تبيعه لنا بـ 30 ألف ليرة، وعيش يا مزارع».