بنت جبيل ــ داني الأمينربّما لم يدقّق وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك كثيراً قبل إطلاق تصريحه الأخير عن أن حرب تموز حققت أمناً على الحدود لمصلحة إسرائيل. وقد يكون وجّه منظاره المغلق مجدّداً تجاه القرى والبلدات الحدودية، فلم يلحظ حجم التغييرات التي طرأت عند الحدود، ولا سيّما حجم البناء الهائل للمنازل والمباني السكنية الحديثة الملاصقة للمستعمرات، والطرقات الواسعة والمعبّدة. إن نظرة واحدة عن بعد تؤكد أنّ سكّان القرى الحدودية اللبنانية يأمنون على حياتهم وأرزاقهم أكثر من أيّ وقت مضى.
واقع غريب ومثير للدهشة، ولا سيّما في تلك القرى المنسيّة من الدولة ومؤسساتها، والتي ليس فيها أيّ من مقوّمات الصمود، ما يفسّر تدنّي عدد المقيمين في هذه القرى، رغم بناء المنازل بالعشرات، بل بالمئات، وخاصة الفخمة منها بكلّ جرأة، عند الحدود مباشرة بعد حرب تموز، كأن حرباً لم تقع، ولن تقع مجدّداً.
يحصي مختار بلدة العديسة خليل رمّال أكثر من 100 منزل شيّدت حديثاً، لافتاً إلى ارتفاع أسعار الأراضي ليصل سعر الدونم الواحد إلى 40 ألف دولار. ويقول: «ازدادت حركة شراء الأراضي كثيراً بعد التحرير، واستمرت بعد حرب تموز، والأهالي هنا يبنون منازلهم عند الحدود ولا يخافون على أموالهم هذه، فهذه جنّتنا ولن نتركها».
واللافت، كما يقول رمّال، أن العديد من الأهالي الذين بنوا منازلهم على الحدود لم يولدوا في البلدة ولم يسكنوا فيها سابقاً، حتى إن بعضهم من أبناء مدينة بيروت. «هناك قصران بُنيا بعد الحرب عند الحدود وتعود ملكيتهما لآل عيتاني وآل الحص، عشقوا الطبيعة هنا وتعايشوا مع الأهالي وفضّلوا المواجهة على طريقتهم».
هذه المواجهة انتهت إلى بناء أكثر من عشرين منزلاً حول موقع «العبّاد» الإسرائيلي، المحصّن بالأسمنت والسياج الحديدي وأجهزة المراقبة المختلفة، ما يؤكد جرأة الأهالي وإحساسهم بالأمان بعد الحرب.
في مركبا، القرية القريبة من العبّاد والمجاورة لموقع «عرض البير» الإسرائيلي، تنتشر الأبنية الفخمة.
يقول أحد أبنائها حسين الأشقر: «شهدت البلدة حركة بناء واسعة بعد التحرير، تجاوزت 600 منزل. واستمرّ الأمر بعد الحرب، حيث بنى أبناء البلدة منازل فخمة كلّفت أصحابها مئات الآلاف من الدولارات، كلفة أحدها مليونا دولار. وهناك أبنية كثيرة ملاصقة للحدود، كأنّ الأهالي هنا يتحدّون العدو في بناء منازلهم قبالة مستعمراته».
الوضع مماثل في ميس الجبل المواجهة للمنارة. هناك تنتشر المحال التجارية بالعشرات، وهي متخصّصة جميعها في تجارة المفروشات والأدوات المنزلية، وربّما يفسّر أيضاً أن سكان المنطقة يلجأون بكثرة إلى تجهيز منازلهم الجديدة دون أي اعتبار لأي تهديد يطال ممتلكاتهم وأموالهم.
أما مدينة بنت جبيل، فقد امتلأت بالمنازل والأبنية والمحال التجارية، وارتفعت فيها أسعار العقارات ارتفاعاً فاحشاً، رغم أن الكثير من البيوت لم ينته بناؤها بعد.


لمحو أجواء الحزن

حركة إعادة الإعمار الكثيفة لا تنفي جواً عاماً من الحزن يخيّم على المنطقة، وذلك باعتراف أبنائها. منهم من لا يزال متأثّراً بمآسي الحرب وويلاتها، فرائحة دماء الشهداء تفوح من كلّ منزل جنوبي.
وفيما تعيد وفاء شرارة (بنت جبيل) هذا الهدوء إلى ما اعتاده الأهالي من حياة قبل التحرير، يلفت علي قطيش (حولا) إلى أن هذا الحزن لا يعبّر عن خوف أو قلق، بقدر ما يعبّر عن ثقافة حياة تحتاج إلى تغيير جذري: «أوّلها يتعلّق بضرورة بناء المطاعم والملاهي والأندية، ومن ثمّ القيام بالعديد من الأنشطة والسهرات المختلفة، التي كانت قد بدأت تنشط قبل الحرب».