معتصم حمادة *قد يبدو اعتراض فصائل منظمة التحرير الفلسطينية على الحوار الثنائي بين فتح وحماس (في عيون بعض المراقبين) على أنه احتجاج على استبعادها من هذا الحوار، وليس لأن الثنائي يقود إلى صفقات تحاصصية، لا تخدم المصلحة الوطنية، ولا توفر حلاً وطنياً شاملاً للأزمة، بقدر ما تؤسّس هذه الصفقات لأزمات لاحقة قد تكون أكثر خطورة من تلك الأزمات التي تعيشها الحالة الفلسطينية في الوقت الراهن.
ولعل نظرة سريعة على «الحلول» التي يتداولها الطرفان، فتح وحماس، في حوارهما الثنائي، تساعد على التدقيق في صحة الاعتراض على هذه «الثنائية». أولاً من موقع أن هذه «الحلول» هي في صيغتها العامة ارتداد عمّا توصلت إليه لجان الحوار الشامل في القاهرة، وثانياً من موقع أن هذه «الحلول» هي مقدمات لأزمات جديدة.
ولنأخذ الصيغة المقترحة للجنة المشتركة التي ستنسّق بين «حكومتي» رام الله وغزة نموذجاً.
ـــــ هذه اللجنة هي في الأساس التفاف على فكرة حكومة الوفاق الوطني (أو الوحدة الوطنية لا فرق) التي شدّدت على تأليفها لجنة الحكومة في حوار القاهرة (10 ـ 19/3/2009) وبموافقة الأطراف المشاركة جميعها. وهي ارتداد، في الوقت نفسه، عن موقف الإجماع الوطني (الفصائلي والحزبي والجماهيري) الداعي إلى إنهاء صيغة «الحكومتين» لمصلحة صيغة الحكومة الواحدة، للسلطة الواحدة، للشعب الفلسطيني الواحد.
ـــــ هذه اللجنة هي تكريس لحالة الانقسام، وهي معنية بالتنسيق (فقط «التنسيق» فهي في التعريف «إطار تنسيقي»)، بين حكومتين، وبالتالي هي معنيّة بالتعامل مع هاتين «الحكومتين» من موقع الاعتراف بشرعية كل منهما، بمن في ذلك حكومة هنية في القطاع. إن إن هذا الاعتراف يؤسّس لسابقة سياسية ودستورية خطيرة، حين تنتهي الأمور في إطار الحوار الوطني، إلى الاعتراف بشرعية الانقسام، ولا تنتهي، كما هو مفترض بإنهاء الانقسام. انطلق الحوار لإنهاء الانقسام، وانتهى، وفقاً للجنة المشتركة إلى تكريسه والاعتراف به.

إذا جرت الانتخابات المقبلة تحت إشراف حكومتين، فستكون الأسوأ في تاريخ الحالة الفلسطينية
ـــــ تتألف اللجنة من 16 عضواً من فتح وحماس والفصائل والمستقلين. غير أن فتح وحماس، هما المعنيتان، دون غيرهما بتسمية أعضاء اللجنة. وهذا نص مثير للاستغراب والدهشة، وكأنه يعطي الحركتين صلاحية مميزة، تقود إلى الاستفراد بالقرار. وهكذا يلتقي هذا النص مع صيغة المحاصصة والتفرد. يبقى السؤال منتصباً: من يضمن أن الحركتين سوف تسميان الفصائل والمستقلين بما يستجيب لضرورات الوحدة الوطنية، ومن يضمن ألا تلجأ الحركتان إلى التلاعب بالتسمية هذه، على خلفيات سياسية وفصائلية، وبالتالي تتحول وظيفة اللجنة إلى عكس ما هو مطلوب، وتصبح مادة للمماحكة السياسية والفصائلية بدلاً من أن تكون وسيلة للتوافق الوطني.
ـــــ يصدر الرئيس عباس مرسوماً بتأليف اللجنة. ويكون هو مرجعيتها بصفته رئيس اللجنة التنفيذية في منظمة التحرير وقد اعترضت حماس على صفته رئيساً للسلطة الفلسطينية، مع العلم بأن حماس، تطلّ علينا بين فترة وأخرى في الطعن بشرعية اللجنة التنفيذية وشرعية رئيسها محمود عباس. وبالتالي ما هي الضمانة ألا تطعن حماس، في لحظة ما، بشرعية الرئيس عباس وشرعية مرجعيته للجنة. ثم هل يرضى عباس أن يكون مرجعية للجنة، وأن يقبل في الوقت نفسه بطعن حماس بشرعيته رئيساً للسلطة، في الوقت الذي ستحاول فيه حماس أن تكسب «حكومتها» في غزة شرعية من بوابة تعامل اللجنة معها كأمر واقع في القطاع. وإذا ما تطورت الأمور على نحو دراماتيكي ألا نقف، في لحظة ما أمام واقع جديد، تكتسب فيه مؤسسات حماس المنبثقة عن الانقلاب شرعية الأمر الواقع، بينما تبقى المؤسسات الفلسطينية الرسمية مطعوناً بشرعيتها؟
ـــــ تتولى لجنة التنسيق في الإعداد للانتخابات الرئاسية والتشريعية والمجلس الوطني بما لا يتجاوز 25/1/2010. هذه هي المهمة رقم واحد المكلفة بها اللجنة حسب الورقة المصرية. يقول محمود الزهار إن لا انتخابات قبل الاتفاق على كل شيء في الحوار. وفي هذا القول الشيء الكثير، من أبسطه أن طريق الانتخابات مزروعة بالعراقيل، وخاصة أن صفاً عريضاً في حماس لا يخفي نواياه في ضرورة تأجيل الانتخابات والتمديد للمجلس التشريعي الحالي لسنتين إضافيتين بذريعة منح حماس فرصة لتأكيد جدارتها في الحكم. من سيهيّئ للانتخابات في قطاع غزة، هل هي «حكومة» حماس؟ ومن سيشرف على هذه الانتخابات؟ ومن يضمن أن «التعاون» سيسير بطريقة سلسة بعيداً عن التلاعب، وخاصة أن الحلول مبنية على المحاصصة، وبالتالي يصبح هدف كل طرف الوصول إلى «حصته» عبر كل السبل المشروعة منها وغير المشروعة. نعتقد أن مثل هذه الانتخابات، إن هي جرت في ظل الحال القائمة، وتحت إشراف «حكومتين»، ستكون أسوأ الانتخابات التي سوف تشهدها الحالة الفلسطينية. ستطعن فتح بشرعية هذه الانتخابات ونزاهتها في ظلّ «سلطة» حماس، في القطاع، وستلجأ حماس إلى الذريعة نفسها، في موقفها من نتائج الانتخابات في الضفة إذا لم «تتطابق» هذه النتائج مع رغبات حماس في العودة إلى المجلس التشريعي باعتبارها الحزب الأكبر فيه.
قد يُقال إنه يمكن إجراء الانتخابات في ظل رقابة دولية وعربية وإقليمية. (في حال توافق الأطراف المحلية على ذلك) هذا يعيدنا إلى تجربة لبنان. إذ، ومع الرقابة الأجنبية، اشتكى كثيرون من تجاوزات أهمها المال السياسي، والهويات المزورة... والتحريض الطائفي والمذهبي، وما زالت جعبة القضاء حافلة بمئات الشكاوى عن هذه الأمور. خلاصته القول: إذا لم تتوافر إدارة محلية، محايدة، نزيهة، للإشراف على الانتخابات وضمان سلامتها، فإن كل الرقابات الأجنبية لن تجدي نفعاً. دون أن يغيب عن بالنا ما إذا كانت أجواء الانقسام ستوفر الفرص المؤاتية «لكل» المرشحين أن يخوضوا حملاتهم الإعلامية، والجماهيرية، وأن يقولوا ما يريدون أن يقولوه. هل من المسموح (مثلاً) أن يبني مرشح ما حملته الانتخابية، في القطاع، على رفضه المبدئي للانقسام والانقلاب على السلطة. وهل من المسموح (أيضاً مثلاً) أن يبني مرشح حملته الانتخابية في الضفة على رفضه لسياسة حكومة سلام فياض، ولسياسة الرئيس عباس من دون أن يتعرض أي من هذين المرشحين إلى ما «يعطل» حملته أو يعرقلها.
ـــــ وظيفة اللجنة المساعدة في إعادة بناء الأجهزة الأمنية. لكن ورقة العمل لا تشرح كيف هي هذه المساعدة. وبالتالي لا توفر أجوبة لأسئلة كثيرة: إذا كانت التجربة الأولى لإعادة البناء هي بناء قوة مشتركة، فهل سيقتصر «الاشتراك» على فتح وحماس أم أن الباب سيكون مفتوحاً لكل أبناء الشعب الفلسطيني الراغبين في الالتحاق بالمؤسسة الأمنية. ومن هم قادة هذه الأجهزة، ضباط من فتح وحماس، أم من خارج الحركتين، وكيف تكون محايدة ومهنية إذا كان ضباطها من الحركتين: ومن هي مرجعية هذه القوة، وزارة الداخلية في حكومة فياض، أم وزارة الداخلية في حكومة هنية، أم الرئيس عباس المطعون من قبل حماس في شرعيته كرئيس للسلطة. ويطول حبل الأسئلة، وهي كلها شائكة، وتزداد تعقيداً كلما أوغلت عقلية المحاصصة في قراءة الواقع على خلفية المصلحة الفئوية لا على خلفية المصلحة الوطنية العامة.
ـــــ من الأسئلة العابرة (لكن المهمة): من سيحسم في خلافات لجنة التنسيق وخاصة أنها متوازنة (8 مقابل 8) وهل يشكل صوت الرئيس عباس الصوت المرجح، وهل تقبل به حماس حكماً في الخلافات أم هي سترتد في لحظة ما، لتطعن بشرعيته رئيساً للسلطة وكذلك رئيساً لمنظمة التحرير «فاقدة الشرعية»، كما يحلو لبعض الناطقين باسمها أن يصفوها.
ـــــ كذلك من بين الأسئلة العابرة (لكن المصيرية): إذا ما أصرّت فصائل منظمة التحرير الثمانية، التي وقّعت مذكرة 29/6/2009، على رفضها للحوار الثنائي، ولكل ما ينتج من هذا الحوار، بما في ذلك صيغة اللجنة المشتركة، وإذا رفضت، في سياق موقفها هذا، الاشتراك في اللجنة المذكورة، ورفض أمناؤها العامون (مثلاً) التوقيع على الاتفاق ـــــ المحاصصة، كيف ستحلّ فتح وحماس القضية؟ هل تذهبان، منفردتين في تشكيل اللجنة و«تنفيذ الحلول» وفق مبدأ المحاصصة، أم سيُعاد النظر في الأمور لمصلحة حوار جديد، مؤسس على الرؤية الوطنية والحلول الشاملة؟ هذه هي واحدة من الثمار المرة للحوار الثنائي. واحدة، وغيرها كثير.
* عضو المكتب السياسي
للجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين