يامن جريس *تعادل المنتخب الإيراني في المباراة الأخيرة والحاسمة أمام كوريا الجنوبية وأضاع فرصة المشاركة في مباريات كأس العالم في جنوب أفريقيا. في هذه المباراة، أظهر اللاعبون دعمهم للإصلاحيين في إكمال مسيرتهم وتظاهراتهم ضد السلطة على خلفية الشك في نزاهة فرز الأصوات، وذلك عن طريق ربط أشرطة خضراء بأذرعهم. أدى ذلك في النهاية إلى طرد خمسة لاعبين من الفريق وسحب جوازات سفرهم.
كتب فرانكلين فوير في كتابه «كيف تفسر العالم من خلال كرة القدم: نظرية غير محتملة للعولمة» (Harper Collins، 2004) أنه في عام 1997 عندما فاز المنتخب الإيراني في مباراة حاسمة ضد أوستراليا بهدفين، وضمِن حينها التأهل إلى كأس العالم، وصل المبعوثون من جانب مؤيدي الثورة، لتهدئة الشارع الطهراني، فانضموا بطريقة مفاجئة إلى تلك الاحتفالات، وأربكوا السلطات. فجّر نداء الصافرة حينها شعور الجماهير وأخرجها إلى الشوارع والحارات، راقصةً مهلّلة بتأهّله بلادها إلى كأس العالم في عام 1998، وهناك حتى من شرب الكحول علناً. أما الأسوأ، فقد حدث في الضواحي الأكثر ليبرالية في طهران: احتفل الرجال والنساء معاً. كان محمد خاتمي هو الرئيس الجديد آنذاك، ومعه أتت آمال كبيرة وجديدة، بإيران ليّنة وغير متشددة، وخاصة بعدما أصدر آية الله الخميني في عام 1987 فتوى، سمح بها للنساء بمشاهدة لعبة كرة القدم في التلفاز فقط، لا في الملعب، بحجة أن الرجال في الملعب يلفظون الكلام البذيء والشتائم. وبحسب فوير، فإن أول مدرب أجنبي للمنتخب الوطني (فييرا البرازيلي) كان قد عُيّن في عهد خاتمي، وبهذا شُقت طرق اللاعبين إلى أوروبا، وأصبحوا أحد الأمثلة على التفاعل الإيراني مع الاقتصاد العالمي.
حصل ما هو عكس المتوقع وخُيّبت الآمال. أمر خاتمي حينها بتأخير اللاعبين لمدة ثلاثة أيام في دبي قبل وصولهم إلى طهران، وذلك لسبب واحد: التجمهرات في الشوارع وفرح المشجعين أفزعا السلطات، ما أدى إلى تحذير الإعلام بعدم فتح المجال «للكفر باسم الله» من جانب المشجعين. قررت السلطة الإيرانية استقبال الأبطال في ملعب (أزادي) كي تخمد التجمّعات العشوائية في شوارع العاصمة.
لم يتوقع أي مسؤول إيراني حينها أن تخرج النساء بعدد هائل كهذا باتجاه ملعب أزادي، في ليلة شتاء قارسة ودرجة حرارة تحت الصفر. عندما اتضح أن الشرطة لم تعد تسيطر على الوضع، قرر المسؤولون افتتاح مدرج واحد يتسع لـ 3000 مشجعة وبقي ضعف هذا العدد في الخارج، فتظاهرن وهجن حتى أسقطن الحواجز، وصرخن حينها «ألسنا جزءاً من هذه الأمة؟ نريد أن نحتفل، نحن لسنا نملاً!». فما كان من الشرطة الا أن سمحت لهن بالدخول الى مدرّجات الرجال حرصاً على عدم وقوع اضطرابات أخرى قد تزعج المحتفلين في الداخل. الحادثة الأولى في تاريخ الشعب الإيراني سُمّيَت «الثورة الكروية»، التي طالب خلالها المشجعون في الملعب «بالحرية» و«الحب لأميركا» لتتحول تلك العاطفة القومية إلى أحد الرموز المهمة لهذا الصراع.
في كأس العالم عام 1998، حكمت القرعة بأن تلعب إيران ضد الولايات المتحدة. فاز المنتخب الإيراني بنتيجة هدفين لهدف. خرجت الجماهير مرة أخرى إلى الشوارع وأربكت السلطات وجعلتها تقف في موقع حرج جداً. من جهة، فاز المنتخب على «الشيطان الأكبر» ورفع الرأس، ومن جهة أخرى، ازداد تفاعل الإيرانيين وتواصلهم مع باقي العالم من خلال كرة القدم، وكُسر حاجز العزلة الذي سيطر تماماً منذ الثورة الإسلامية في عام 1979. الثورة التي حاولت بكل جهد، تشجيع رياضات محلية كالمصارعة الحرة «الزورخانة» وحمل الأثقال على حساب كرة القدم الغربية «الكافرة لتعرّي لاعبيها». باءت المحاولة طبعاً بالفشل، واستمر الشعب الإيراني في عشق هذه اللعبة الساحرة. حكم الشاه محمد رضا بهلوي إيران منذ عام 1941 حتى 1979. على الرغم من الجدلية في سيرة حياته، فإن أهم ما يذكر من إنجازات هذا الشاه هو السماح للمرأة بالتصويت، منع الحجاب، الاختلاط في المدارس والإصلاحات الزراعية والاقتصادية مما أدى إلى انتعاش اقتصادي لم يسبق له مثيل. كان حب الشاه لهذه اللعبة كبيراً، لدرجة أنه صادر أراضي وأوقافاً للجوامع وحوّلها إلى ملاعب لكرة قدم. نشر هذه اللعبة الجذابة في جميع أنحاء الدولة، حتى أقيمت أندية لكرة القدم، ودوريّ كانت ذروته عندما تغلب فريق «نادي طهران» على غريمه البريطاني «الاستعماري» لأول مرة في سنة 1970. أدى هذا الانقلاب في كرة القدم الإيرانية إلى تأهل المنتخب لأول مرة إلى نهائيات كأس العالم عام 1978، أي ما قبل الثورة. إضافةً طبعاً إلى عدة إنجازات أخرى، منها بطل قارة آسيا لثلاث مرات.
تكرّر تأهّل المنتخب الإيراني إلى كأس العالم في كلّ من عامي 2002 و2006، وفي كل مرة خرجت الجماهير إلى الشوارع، كانت تسبّب ارتباكاً للسلطات. كان من المفروض أيضاً أن يتأهل المنتخب لكأس العالم 2010 في جنوب أفريقيا، ولكن سلسلة من خيبات الأمل وخسائر غير مبرّرة جعلت موقفه في الحضيض، وفي نهاية شهر آذار خسر المنتخب في بيته، «يا للعار!»، أمام الخصم السعودي!
قبل أيام قليلة من عملية الانتخابات الأخيرة، كان على الإيرانيين أن يفوزوا في المباراة في كوريا الشمالية. لكنهم تعادلوا. صرّح بعد ذلك الرئيس الإيراني أحمدي نجاد، الذي يعتبر نفسه من عاشقي اللعبة، أنه سيتدخل شخصياً لحل هذه الأزمة. طبعاً مع بعض التحفظات على هذه اللعبة و«ظواهرها السلبية التي يجب التخلص منها». خصّص لهم طائرة، تحملهم بسرعة إلى أرض الوطن، للوقوف أمام المنتخب الإماراتي الضعيف. فاز المنتخب الإيراني بهدف نظيف، لكن هذا لا يكفي، فالشعب الإيراني يعلم أن فُرصة التأهّل إلى كأس العالم، باتت ضئيلة جداً.
مع تفاقم التظاهرات، واحتدام المشكلات السياسية التي تلت الانتخابات الرئاسية، سافر المنتخب إلى كوريا الجنوبية لمباراة حاسمة وأخيرة. هي المباراة ذاتها التي ظهر فيها اللاعبون مع الأشرطة الخضراء لمناصرة الإصلاحيين في صراعهم، ومساندتهم في المطالبة بالعدل. خلال استراحة الشوط الأول أتت الأوامر بأن يخلعوا تلك الأشرطة. رفض بعضهم هذا الأمر، وانتهت اللعبة بتعادل إيجابي مخيّب حرم المنتخب المشاركة في نهائيات كأس العالم، وتحطمت آمال الجمهور الإيراني.
يوم الثلاثاء 23 حزيران (يونيو)، وصل القرار: سحب جوازات السفر من اللاعبين «المتمردين»، ومنعهم من ممارسة كرة القدم مدى الحياة.
تنبأ فرانكلين فوير في كتابه، عام 2004، أن لكرة القدم في إيران، حصة كبيرة في المساهمة وبلورة الثورة الآتية في إيران بشكل خاص، وفي حل النزاع في الشرق الأوسط عموماً. وخاصة أن كرة القدم، حسب فوير، تمثل التحدي الحتمي الذي تمثّله العولمة لإيران، وهي الممر المفتوح أمام الغرب للوصول إلى جماهير طهران. فهل صدق؟
* كاتب فلسطيني مقيم في برلين