ذكرت الصحافة الأردنيّة أخيراً ان اختيار العاهل الأردني وقع ــ حسماً للجدال والتكهّنات ــ على ابنه ذي الخمسة عشر عاماً ليكون وليّاً للعهد. ولا شك أن الاختيار جاء نتيجة لبحث معمّق اعتمد فقط على المؤهّلات والمواهب والاختصاصات. ولا يلومَنّ أحدٌ الملكَ الأردني إذا وجد كل صفات الكمال مجتمعة في ابنه البكر، الحسين
أسعد أبو خليل *
أبناء الزعماء العرب ليسوا نجباء بالسليقة فقط، لكن المواهب والكفاءات تظهر في سيمائِهم في سن الرضاعة. والأمة الأردنيّة ـــــ أو ما اتُّفق اعتباطاً على تشكيله اعتباطيّاً كـ«أمة» ذات صفات مشتركة (مع أن ونستون تشرشل الذي، وفق روايات الدبلوماسيّة البريطانيّة، رسم خريطة الأردن بعد وجبة غداء في مطعم في القدس، اقترح أن يُشار إلى من يقطن في المملكة الجديدة كـ«فلسطينيّين أردنيّين»، لكن الاستعمار عاد وغيّر فكره في هذا الصدد)، أو مُتخيّلة لأن المُستعمر البريطاني جهد ليخلق من عدم هويّة وثقافة لفصل شعب عن محيطه خدمة للمشروع الصهيوني الذي تبنّته الإمبراطوريّة التي غابت عنها الشمس في وعد بلفور عام 1917.
ويفرد الصديق جوزف مسعد في كتابه المرجعي، «آثار استعماريّة»، عن تشكيل الوطن الأردني، فصلاً خاصاً لتحليل كيفيّة تشكيل الثقافة الوطنيّة الأردنيّة والمواطنيّة المُصطنعة على يد الاستعمار البريطاني والتي أنتجت ما سمّاه مسعد «مقلّدي المُستعمِر» المُحترفين. الإنشاء العسكري كان نموذجاً ودليلاً للإنشاء الوطني، والبريطاني ملمّ بشؤون الرعيّة أكثر من الرعيّة ومن وكلائه. ولا يمكن الفصل بين خلق الكيان الصهيوني وخلق كيانيْن مصطنعيْن لتسوير إسرائيل دفاعاً عنها مستقبلاً. ولا شك أن لبنان والأردن كانا خير معينيْن لإسرائيل في كل المراحل التاريخيّة، حتى في تلك المراحل التي تصنّع فيها الأردن الحرب على إسرائيل. ولا شك أن الكيان الأردني حمى إسرائيل في محطّات تاريخيّة مفصليّة، لا بل إن النصر الصهيوني عام 1948 يعود في الدرجة الأولى إلى التواطؤ الهاشمي الذي أدّى إلى تولّي الأردن (بإصرار بريطاني) «قيادة» العمل الحربي العسكري (الكوميدي) ضد إسرائيل وذلك لا لمنع

الروايات العربية عن حرب 1967 تخفي دور النظام الأردني في دفع مصر نحو التهلكة
قيام إسرائيل وإنما من أجل قيامها ومن أجل منعِ منعِها. تذكر المراجع التاريخيّة (مثل كتاب «جذور الوصاية الأردنيّة» لسليمان بشير وكتاب ماري ولسن عن «الملك عبد الله وإنشاء الأردن») كم كان الملك عبد الله حريصاً على تلقّي الرشى الصهيونيّة. وكانت الأموال التي ضَمَنت دعمه للصهيونيّة زهيدة جداً: بضع مئات من الجنيهات هنا وهناك وهنالك، وكان أحياناً يطلب المزيد في المواسم والأعياد لأنه ـــــ كما قال في رسالة ـــــ يريد أن يؤثّر على الصحافيّين والكتّاب الذين يناهضون الصهيونيّة. لكن الرشى تقليد لم يحدْ عنه العرش الهاشمي منذ إنشاء الكيان.
والعودة إلى عام الفصل في 1948 ودور الملك عبد الله مهمة للغاية ليس فقط لتمحيص درجة التواطؤ العربي على أكثر من جبهة، بل لتلمّس الدور المرسوم للأردن منذ بداية الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي. فماذا فعل وقال سليلُ الرسول القادم من مكة؟ قال ما يلي ردّاً على الغضبة العربيّة العارمة بعد مجزرة دير ياسين: «لقد تلقيت برقيّة من الوكالة اليهوديّة تستنكر فيها مذبحة دير ياسين وتعلن سخطَها على الإرهابيّين الذين اقترفوا الجريمة». خاف حضرته أن تعمّ الغضبة وتؤثّر على اتفاقاته مع الصهاينة (والتي تناقضت مع ما كان يتّفق مع العرب عليه). وعندما كان العرب مُجمعين على ضرورة التصدّي للخطر الصهيوني، كان عبد الله هذا يُولول ويرغي ويزبد محذِّراً من الخطر الشيوعي: «إني والله أحب السلام... ولكن إذا ازداد الموقف سوءاً فإني أشدّ الناس مراساً في العمل، وخاصة إذا شممت رائحة الشيوعيّة هناك». (نص تصريحات عبد الله مُدرَج في كتاب عبد الله التل القيّم، «كارثة فلسطين»). وعندما كان شعب فلسطين يستنجد بالجيوش العربيّة، وَعدهم بـ«ذئاب العرب» لكن فقط إذا تعرّضت المُقدّسات للخطر. (ص. 63 من المرجع المذكور). ولا داعي لفتح جروح شعب فلسطين بسرد تفاصيل التدخل العربي المسرحي، وخصوصاً أن القائد العربي، الملك عبد الله، كان مُرتَهناً للمستعمِر البريطاني والوكالة اليهوديّة في آن واحد. حرص غلوب باشا أن لا يحيد دور الجيش الأردني عن الاتفاق السرّي. وسرعان ما اجتمع عبد الله مع وفد إسرائيلي بعد انتهاء المعارك وقال له: «وأنت تعلم يا ساسون ـــــ والأخير باني علاقة مُبكّرة مع حزب الكتائب اللبنانيّة رغم اختلاق جوزف أبو خليل لرواية الإبحار العفوي إلى إسرائيل عام 1976 ـــــ أننا لم نحاربكم ولم نعتدِ على ما خُصِّص لكم (في الاتفاق الأردني ـــــ الإسرائيلي السرِّي)». وسارع بن غوريون إلى تقديم هديّة ثمينة للملك عبد الله الذي، للأمانة، كان يُفضِّل الهدايا النقديّة من الصهاينة لا الخرائط القديمة والجلود المزركشة. ما علينا. عرف شعب فلسطين بسرعة ما فعله بهم عبد الله، وكان ما كان.
لا شك أن دور الملك حسين كان مؤثِّراً. لم يحد الوطن الأردني (المسخ مثله مثل لبنان) عن دور الظهير لإسرائيل الذي بدأه جدّ الحسين من قبل، وفق الإرادة البريطانيّة السامية منذ الإنشاء. والحديث عن الحسين واجبٌ هذه الأيام وخصوصاً أن كتابيْن صدرا حديثاً هنا لسرد سيرة رجل وَقع كتّاب الغرب في هيامِه ـــــ لا لإقامته مملكة فاضلة وإنما لسهولة إذعانِه ولتقديمه خدمات جلّى للعدو الإسرائيلي على مرّ العقود. يمكن التعميم بالقول إن الحكومة الهاشميّة كانت إلى جانب إسرائيل في كل مراحل الحروب العربيّة ـــــ الإسرائيليّة وفي كل مسار ما يُسمّى «الحل السلمي». أي إن الملك الأردني ناصر إسرائيل سلماً وحرباً. لكن اغتيال الملك عبد الله أمام ناظريْ حسين ضمن ألا يكون الأردن الدولة العربيّة الأولى التي توقّع اتفاق سلام مع إسرائيل (سبقهم أمين الجميّل إلى ذلك، والأخير قال بصفاقة أخيراً إن لا أحد يزايد عليه في ما يتعلّق بالقضيّة الفلسطينيّة). آفي شلايم أصدر كتاباً ضخماً عن الملك حسين ضمنه تفاصيل من لقاءات خَصّه بها الملك، بالإضافة إلى حثّه خلصائِه للتحدّث لشلايم. وشلايم مؤرّخ من فريق ما يُسمّى «المؤرخين الجدد»، وهو من منتقدي إسرائيل في احتلالها الضفة الغربيّة وغزة. وقد استطاع أن يحصل على ثقة الطلاب العرب في جامعة أوكسفورد حيث يُعلّم. قال لي بعض تلاميذه هذه السنة إنه يقول لهم إنه خدم في الجيش الإسرائيلي لكن في حرس الحدود فقط. ذكّرتُ الطلاب العرب بأن حرس الحدود هو الذي قتل «الآلاف» ـــــ وفق تعداد المؤرخ اليميني بني موريس في كتابه «ضحايا مؤمنون بأحقيّتهم» ـــــ من الفلسطينيّين العزّل بين 1948 وأوائل الستينيات. وكان هؤلاء يحاولون التسلّل إلى فلسطين المحتلّة لتفقّد ممتلكاتهم.
وسيرة شلايم (تحت اسم «أسد الأردن» ـــــ يكفي الاسم للتيقّن من ولاء شلايم للهاشميّين) عبارة عن 700 صفحة من الدعاية المجّانية للهاشميّين. فهو لا يخالف الملك في رأي ولا ينتقد ممارسات لا بل مجازر الملك في أيلول الأسود. وفي مخالفة لمعايير البحث العلمي، لا يحاول شلايم حتى مراجعة المصادر المخالِفة للملك: فروايات الفلسطينيّين لأيلول الأسود (والمراجع العربيّة) لا تهمّ: يعتمد شلايم فقط على الرواية الهاشميّة وكتب إسرائيليّة. ويضفي في روايته مسحة عاطفيّة رومنسيّة على وصفي التلّ (مثلما يحاول بعض مدّعي اليساريّة في الأردن من الذين يؤمنون بديكتاتورية قائد الاستخبارات السابق عوضاً عن ديكتاتوريّة العمّال)، ويعتمد في روايته عنه (والزعم أنه كان يمتلك خطة لتحرير فلسطين (ص. 189) على... أفراد عائلته، لا على ثوّار فلسطين الذين تدلّوا كالفراريج في أقبية تعذيب النظام. لكن شلايم يوضّح منطلقاته في مقدمة الكتاب عندما يصف الملك بأنه يجمع بين «الإنسانيّة والتواضع». لا يمتنع حتى عن تسويغ المواقف الشخصيّة للملك، مثل منعه مطلّقته الأولى من رؤية ابنتها (ص. 98 من الكتاب). لكن الأمر يُثير تساؤلات: ما الذي يجعل من ملك لم يحكم طيلة حياته إلا عبر الجمع بين القمع والتدخّل الخارجي (الغربي والإسرائيلي) لإنقاذ نظامه مثارَ إعجاب من ليبراليّين غربيّين؟ الجواب طبعاً يكمن في خدماته لإسرائيل، وكان شلايم أول من صارحه الملك برواية أخبار كل لقاءاته مع الإسرائيليّين عبر طبيبه البريطاني الصهيوني (وإن فات شلايم أن الملك تمتّع بأكثر من صلة بأصدقائه في إسرائيل، ولم تمرّ دائماً لقاءاته بهم عبر الوسيط اللندني). ونذكر أن الملك كان حريصاً على نفي ما يصدر في كل مطبوعة غربيّة تذكر خبراً عابراً عن لقاءاته بالإسرائيليّين عبر السنين.
وينسى من يحاول من الغربيّين إضفاء مسحة من التهذيب وحسن الخلق على الملك أنه كان من أصدح الشتامين بين الحكام العرب في الستينيات. هذا الذي لا يخاطب الغرب إلا بأقصى مظاهر التهذيب وعبارات الترحيب احتراماً منه للرجل الأبيض، كان قبل أشهر فقط من حرب 1967 يصبّ جام غضبه على جيرانه العرب فيقول عنهم ـــــ لا عن الصهاينة: «دكاكين الشرّ التي نصبها أولئك السفاحون وكهوف الانتهازيّة التي أقامها أولئك المجرمون...» (جريدة «القدس»، 24 أيار، 1967). ويخفى في الروايات العربيّة عن حرب 1967 أن النظام الأردني أدّى دوراً غير بريء في دفع النظام المصري (والذي يتحمّل مسؤوليّة تاريخيّة في الهزيمة) نحو التهلكة. إن المؤتمر الصحافي الذي عقده وصفي التل في 7 كانون الثاني 1967 لم يكتم النوايا: الهدف كان الضغط على النظام المصري لسحب قوات الطوارئ الدوليّة. لقد «ألقى عبد الناصر سلاحه»، ظل التل (الذي وردت معلومات مهمّة عن دوره وعن مقتله في مذكرات إبراهيم سلامة) يُكرّر، ودعا النظام الأردني عبد الناصر إلى سحب قوات الطوارئ الدولية إذا كان حقاً ينوي قتال إسرائيل. وفي حرب 1973، القصة معروفة: اشتمّ الحسين (من خلال جاسوس أردني في الجيش السوري كما كشف كتاب أشتون المذكور أدناه) رائحة التخطيط لحرب مصريّة ـــــ سوريّة فطار إلى إسرائيل على عجل ليحذّر صديقة العائلة الهاشميّة، غولدا مائير. الحميميّة بين الحسين وإسرائيل بلغت درجة جعلت من سليل الرسول قابلاً بِـ (ومُتقبِّلاً لِـ) الغارات التي كانت تشنّها إسرائيل على قوات الشرطة... الأردنيّة نفسها، كما ورد في وثيقة أميركية أُفرج عنها وتعود إلى 18 تشرين الثاني 1966. لكن إنشاء الأردن ـــــ مثل إنشاء لبنان ـــــ اشترط القبول بالتنازل عن السيادة، وإلى الأبد.
هناك معلومات إضافيّة عن الملك في كتاب آخر صدر حديثاً عن دار نشر جامعة ييل لنايجل أشتون. وليس ما نُشر في الكتابيْن جديداً لمن كان دائماً يُشكّك في الدور الأردني في الشرق الأوسط. التفاصيل والروايات وحدها جديدة. كتاب أشتون يُظهر المدى الذي كان فيه الملك أسيراً لمديري الاستخبارات التي كان يثق بها: في الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل. مدير محطة الاستخبارات الأميركيّة في عمان، جاك أوكنيل، كان حاكماً بأمره، وهو الذي تولّى بنفسه دفع المخصّصات السريّة التي رصدتها الوكالة للملك (كما روى بن برادلي، رئيس تحرير «الواشنطن بوست» في مذكّراته) من أجل تعزيز أجهزة استخباراته، وإن كان يستعين بها لغايات اللهو والمرح والحماية الشخصيّة. وعلاقاته بقادة الموساد كانت تاريخيّة، وكانوا يمدّونه بما يحتاج إليه من معلومات لم تتوافر لأجهزته. ويكشف الكتاب سرّاً: أن الملك دعم وبقوة ترشيح بنيامين نتنياهو عام 1996 وروّج له بين الزعماء العرب، وإن شعر بالخذلان بعد ذلك.
لكن كتاب أشتون كان أكثر صراحة في الحديث عن التحالف الوثيق بين الملك حسين وصدام حسين. كانا صديقيْن حميميْن (كما كان الملك عبد الله الأردني صديقاً شخصيّاً لعدي صدّام حسين وإن أرادنا أن ننسى ذلك اليوم). ومن المعروف أن صدّام سمح للحسين بمساهمة رمزيّة في القصف في الحرب العراقيّة ـــــ الإيرانيّة. كتاب أشتون يتحدّث عن وساطة بين نظام صدّام وإسرائيل (ليكفّ أيتام صدّام من القوميّين العرب عن اختلاق صورة صدّام الذي كان ـــــ وفقاً لمخيّلاتهم ـــــ على وشك تحرير فلسطين لو لم «يتورّط» وكأنه قاصر ـــــ في غزو الكويت). تلك الأيام من الاحتلال العراقي للكويت، أطلق الحسين لحيته وتذكّر أنه سليل أشراف مكة. أصابته نوبة الدين مرّة أخرى. قد يكون حلم بالعودة إلى الحجاز. عاد ووجد صعوبة في كسب ودّ الأميركيّين. قدّم سلسلة من الاعتذارات للراعي الأميركي وانتظر بضع سنوات للحصول على صك الغفران مقابل مزيد

حظي الملك عبد الله الثاني بشرف أوّل إعلان لمخطّط إذكاء الفتنة المذهبيّة
من التنازلات ومزيد من الإذعان وتنفيذ الأوامر بحذافيرها.
ولكنْ كلا الكتابيْن لم يصلا إلى حقيقة ما جرى بالنسبة إلى تعيين عبد الله خليفة لوالده. اعتمد شلايم على روايات أفراد في العائلة المالكة غير أن الرواية ناقصة. نحن نعلم اليوم عن الصراع بين الأمين والمأمون وخلافة هارون الرشيد أكثر مما نعلم عن الصراع بين الحسن وزوجة شقيقه أثناء مرض الحسين في أميركا. وتعيين عبد الله بكره أخيراً وليّاً للعهد زاد الغموضَ غموضاً بالنسبة إلى الصراع داخل العائلة.
سيرة الملك عبد الله لم تُكتب بعد، لكن هناك الكثير عنه في كتاب رون سسكند «أسلوب العالم» الذي صدر في العام الماضي. يروي سسكند أن الملك حسين، الذي لم يكن مقرَّباً يوماً من ابنه (ويعترف الابن بذلك في مقابلاته مع شلايم)، سلّم أمر تربية ابنه السياسيّة، وحتى الشخصيّة، في الثمانينيات إلى بوب ريشر، مدير محطة الاستخبارات الأميركيّة في عمّان. وعبد الله ،الذي يحتاج إلى جولة سنويّة في ولاية كاليفورنيا للتنزه في شوارعها البحريّة على درّاجته الناريّة، يصطحب ريشر (الذي اتُّهم في كتاب سسكند بتزوير رسالة من مدير استخبارات صدّام من أجل الترويج لعلاقة بين صدام والقاعدة، والذي تبوأ بعد تقاعده من الوكالة منصب نائب الرئيس في شركة «بلاك ووتر» التي تركت بصماتها الدامية في العراق) حتى في رحلات الدرّاجة الناريّة. واعتمد الابن، شأن الأب، على شركات إعلان وعلاقات عامّة أميركيّة لتحسين الصورة والتأثير على الرأي العام. وشركة «ساتشي وساتشي» التي ساعدت (بعقود باهظة) الاحتلال الأميركي على الترويج لنفسه باللغة العربيّة ـــــ وجهود اللبنانيّين في الشركة كانت حثيثة ـــــ قامت بالواجب واجترحت له شعار «الأردن أولاً» والذي تحوّل إلى بداية إطلاق حملة عنصريّة ضد الشعب الفلسطيني في الأردن، مثلما كان شعار «لبنان أولاً» لسعد الدين الحنيف الحريري مناسبة لإطلاق حملة عنصريّة ضد الشعبيْن السوري والفلسطيني.
ويتميّز حكم عبد الله بتسليم الأمر للمحتل الأميركي في العراق وللحليف الإسرائيلي. لم يعد الحكم الهاشمي ولا الراعي الأميركي يحلم بتسليم أمر القيادة الفلسطينيّة إلى الهاشميّين كما حلم الصهاينة منذ الثلاثينيات. تبيّن للجميع مدى كراهية الشعب الفلسطيني للحكم الهاشمي على مرّ السنين، كما أن القيادة الفلسطينيّة الحاليّة تماثل في طواعيّتها للأميركي والإسرائيلي الحكومات العربيّة المعروفة بمعسكر الاعتدال، رغم ابتكارها لوسائل تعذيب فظيعة. والاستخبارات الأردنيّة سبّاقة في هذا المضمار. يروي صديق عانى من سطوة الاستخبارات كيف أن أجهزة التعذيب والتحقيق كانت متخصّصة إلى درجة أن هناك من تولّى أمر حركة فتح، وهناك من تولّى أمر الجبهة الشعبيّة وهلّم جرّا. ولو لم يكن الأردن يأوي اليوم عدداً وافراً من الثوار الفلسطينيّين المتقاعدين الممنوعين من البوح، لكنا قرأنا مذكرات حافلة بالتفاصيل في هذا المضمار (كان أبو داود مقتّراً جدّاً في هذا القسم من مذكّراته). ويشكو دبلوماسيّون غربيّون في الأردن من انصراف الملك عن شؤون الحكم وقضاء الوقت في ألعاب الفيديو (وهذا يشبه هوس سعد الحريري بلعبة «إكس. بوكس» كما روت مجلة «فوربز»). الملكة متحالفة مع قطاع من رجال الأعمال الذين لا يؤرقهم الاحتلال الإسرائيلي وعدوانه ويتشاركان في الحكم بالاتفاق مع الراعي الأميركي. لكن الملك ينصرف بالتوافق مع بهاء الحريري، على ما يروي أهل عمّان، إلى الاستفادة من تملّك العقارات القسري لبناء ثروة شخصيّة خاصة به (يبدو أن ثروة الحسين انتقلت إلى زوجته).
كان القوميّون العرب في الخمسينيات والستينيات يصفون الكيان الأردني بـ«صنيعة الاستعمار». كانت التوقّعات بالثورة على الحكم الملكي على كل شفة ولسان والمنظمات الفلسطينيّة تؤلف الأناشيد عن حتميّة سقوط النظام. أيلول الأسود كانت المرحلة التي وثّقت من الدعم الغربي والإسرائيلي للهاشميّين (يروي كتاب أشتون أن الملك الأردني حدّد موعد بدء مجازر أيلول بناءً على مشورة مُنجّمة). تعاونت إسرائيل وأميركا في الحرص على حماية الحكم الهاشمي. والتوقيع على اتفاق وادي عربة سهّل للحسين ولابنه من بعده التعاون العلني مع إسرائيل في كل شؤون المنطقة. والمراجع الأميركيّة أشارت إلى أن الأردن كان عضواً سريّاً في التحالف الذي أقامته الولايات المتحدة في غزوها للعراق (لم يجرؤ النظام المغربي على إرسال جنود لدعم المحتل الأميركي فتطوّع بإرسال سعادين مدرّبة على كشف الألغام، ربما عبر التطوّع بالتضحية بأطرافها من دون علمِها. سعادين المغرب لك يا بوش، هديّة من أمير المؤمنين في الرباط).
حظي الملك الهاشمي بشرف أول إعلان للمخطط الأميركي من أجل إذكاء الفتنة المذهبية (والذي يحظى بحماسة شديدة من شمعون بيريز الذي يكاد أن يُدعى لإلقاء خطبة في جامع الأزهر) عندما بكّر في التحذير من الهلال الشيعي. لكن الدور الهاشمي تقلّص بعد ذلك: تسلم الحكم السعودي الملف. فقد الحكم الأردني بريقه الذي كان يحظى به في الستينيات والسبعينيات: كان أكثر مجاهرة من غيره من الأنظمة العربيّة بقربه من حكومات الغرب المُستعمِر. السعوديّة والإمارات ومصر ساهمت في تهميش الدور الأردني. لم يعد يُمسِك بأي من الملفّات العالقة. حكومة الإمارات تدعم بإشراف أميركي عصابات دحلان، مثلاً (هؤلاء الذين هربوا بالسراويل الداخليّة من غزة). لم يعد هناك حديث عن تهديد للأردن على يد الثورة الفلسطينيّة. إن وجود أمثال دحلان وسلام فيّاض ومحمود عباس ينفي الحاجة إلى دور معيّن للنظام الأردني الذي كان يتطوّع لفعل ما لا يجرؤ أي فلسطيني على فعله. الكل في سلطة أوسلو بات اليوم ـــــ كما قال مظفر النواب ـــــ «لا يشرب إلا بجماجم أطفال البقعة».

* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)