المتابعون للملف التربوي عرفوها دماً جديداً يحمل التغيير أينما حلّ. في الأمس، قاومت عدلا سبليني زين الضغط السياسي، فجعلت من «فخر الدين الرسمية» ثانوية نموذجية تضاهي التعليم الخاص، واليوم، تضع التربية نصب عينيها باعتبارها جزءاً من التنمية البشرية
فاتن الحاج
لم تكن الثقة التي وضعتها يوماً مديرة ثانوية فخر الدين الرسمية للبنات رياض المصري في تلميذة الثانوية عدلا سبليني زين ضرباً من ضروب المجازفة. فاختيار التلميذة لتسليم أستاذها مغلفاً مفتوحاً يحتوي على أسئلة امتحانها في مادة الفلسفة كان نابعاً ربما من استشراف ما للمديرة لمستقبل «فتاة مثالية» عصيّة على الضغوط.
فالفتاة لم تخف من الرصاصة التي اخترقت زجاج سيارتها في بداية الحرب الأهلية وهي تنتقل من منزلها في فردان إلى مكان عملها في دار المعلمين في الأشرفية. ولم ترضخ حينها لنصائح الأصدقاء بعدم العبور إلى المنطقة الأخرى، بل «أكملتُ طريقي إلى دار المعلمين لأنني لبنانية والقنّاص لن يمنعني من التنقل على كل الأراضي اللبنانية». وهنا تقول بثقة: «أما إذا كان الفرز البغيض قد اضطرني إلى نقل مكان عملي فهو لم يمنعني في عز الحرب من لقاء رفاقي الذين جمعتني بهم أواصر محبة، إذ كنت وزوجي وأولادي نمضي نهاراً كاملاً في تجاوز السواتر لنزور أهلنا هناك، ولكي يدرك أولادي أنّ الآخر موجود».
هكذا، قسراً، بعد ثماني سنوات على التخرّج من ثانوية فخر الدين، تعود سبليني إلى الثانوية مزوّدة هذه المرة بإجازةً في العلوم الطبيعية من الجامعة اللبنانية وبخبرة تعليمية من ثانوية برجا المختلطة ودار المعلمين في الأشرفية. لكن ما كان ينتظر المعلمة المتحمسة لملاقاة أساتذتها ومزاملتهم في التعليم «لأتعلم منهم أكثر» تحدٍّ آخر. فمنذ اليوم الأول لوصول سبليني إلى ثانويتها، أخرجت المديرة من «جارور» مكتبها مجموعة مفاتيح، عاهدة إلى تلميذتها السابقة النظارة الإدارية والمسؤولية المالية في ثانوية تضم 4 آلاف تلميذة. تقول سبليني وهي تسترجع وقع المفاجأة عليها: «كنت أستعدّ للتعليم الذي لم أختره بالصدفة، فإذا بي أرى نفسي أمام موقع لا أعرف ما إذا كنت أستحقه، لكنني أيقنتُ أن المهمة ستكون صعبة، لأنّني سأكون مسؤولة عن رواتب الأساتذة والموظفين الذين كانوا يقبضونها آنذاك مباشرة من خزنة المدرسة، لا من المصارف كما هو حاصل الآن». هكذا بدأ الخوف من الخطأ يقلق سبليني، ومع ذلك، «كنتُ أشعر بأنّ شيئاً ما يتحضر في الأفق، إلى أن جاءني اتصال من مديرية التعليم الثانوي يدعوني إلى تسلّم قرار تعييني مديرة للثانوية، بعد خروج مديرتي إلى التقاعد». هكذا، تسلمت سبليني في أواخر العام الدراسي 1990 ـــــ1991، إدارة ثانوية فخر الدين المنهَكة من حرب شعواء تعرضت خلالها للسرقة مرات عدة، لتنطلق بذلك مسيرة النهوض في الثانوية، و«تبدأ معها طلبات عدلا سبليني لوزارة التربية!».
رفضت حضور الاجتماعات التربوية الحزبية فحوربت من وزارة التربية

حوّلت الملاجئ الممتلئة بالجرذان إلى مسارح وقاعات للكومبيوتر
لكن، في كل مرة تريد أن تحدث تغييراً ما، كان على سبليني أن تقاتل، إذ كانت تنتزع موافقة الوزارة انتزاعاً، «لا أحصل على الموافقات إلّا بشق النفس». فثانوية فخر الدين كانت أولى الثانويات الرسمية، وربما من الثانويات القليلة التي حاولت تطبيق المناهج الجديدة الصادرة في عام 1997، بعدما حوّلت مديرتها الملاجئ الممتلئة بالمفروشات القديمة والجرذان إلى مختبرات للكومبيوتر وقاعات لتعليم مواد التكنولوجيا والفنون والمسرح واللغة الإنكليزية كلغة أجنبية ثانية، على نفقة صندوق مجلس الأهل.
هكذا استطاعت سبليني أن تُرسي معادلة آمنت بها، «المدرسة الرسمية قادرة على منافسة شريفة مع المدرسة الخاصة». وقد ساعدها في ذلك، كما تقول، فريق عمل متجانس ومجلس أهل متجاوب إلى أبعد الحدود. وكان القرار بتأسيس أندية نشاطات لاصفية خارج الدوام يوم لم تكن المدارس الرسمية الأخرى تجرؤ على ذلك، بمثابة القنبلة التي فتحت عيون المعنيين في الوزارة على الثانوية. لكن سبليني ظلت تدافع بالحجة عن فكرتها التي «أثبتُّ أنها لم تكن مضيعة للوقت، كما كان يقال لي في الوزارة، بل هي مجرد تطبيق عملي لما كُتب على الورق من أهداف للمناهج الجديدة، بدليل أنّ التلميذات الناشطات في الأندية كن يحرزن المراتب الأولى في الامتحانات الرسمية».
ولم تسلم سبليني من هجوم البعض، لكونها كانت ترفض حضور الاجتماعات التربوية الحزبية لسبب بسيط، هو «أنّني موظفة في ملاك وزارة التربية الوطنية، ولا أتبع لأي تنظيم، وبالتالي فولائي للوطن والجيش اللبناني فقط». ومع أنها ترفض الخوض طويلاً في هذه المسائل التي كانت سبباً لتقديم استقالتها في نهاية عام 2007، أي قبل ثلاث سنوات ونصف من خروجها على التقاعد، إلاّ أنّه لم يكن خافياً على المتابع للملف التربوي آنذاك أنّ سبليني كانت مرشحة لمديرية التعليم الثانوي منذ عام 1995 قبل أن يُسحب الأمر من التداول في اللحظة الأخيرة. أما سبليني فتكتفي بالقول: «قدمت استقالتي لفقدان الشفافية في وزارة التربية!».
بعد الاستقالة، لم تتأخر سبليني في تأسيس هيئة ليست بعيدة كثيراً عن التربية حملت اسم «مؤسسة الدراسات والتنمية والعيادة التربوية». وهنا تشرح أنّ التربية تحتاج إلى علاج، بدءاً من البرامج والأبنية المدرسية وتأهيل الأساتذة والموظفين، عبر ورش تدريبية تستعين بخبراء من المؤسسات العالمية التي تهتم ببناء الإنسان وثقافة السلام.


عودة التربية المدنية

كان أول ملامح التغيير، إصرار مديرة ثانوية فخر الدين عدلا سبليني على إعادة تدريس مادة التربية المدنية بعد توقف قسري في الحرب. وتعرب سبليني عن اعتقادها بأنّه لو كانت هذه المادة تدرّس كما يجب لما وقعت الحرب أصلاً