محمد شعير
ولد جمال الغيطاني يوم أعلن رسمياً توقُّف الحرب العالمية الثانية. ومنذ خطواته الأولى في عالم الأدب والثقافة، لم يتوقَّف صاحب «الزيني بركات» عن خوض معارك فعلية ومجازية. عرف التعذيب في معتقلات عبد الناصر، وعاش ستّ سنوات على الجبهة مراسلاً حربياً متطوعاً لجريدة «أخبار اليوم». فُصل من العمل في بداية حكم السادات، ومُنع من الكتابة الصحافية في السبعينيات...
وهو اليوم لا يندم على شيء... باستثناء العمل في الصحافة الثقافية. «الخبرات التي اكتسبتها من عملي على الجبهة لا يمكن أن أنكرها، لكن عندما انتقلت للعمل في الصحافة الثقافية، بدأت حملات التشهير ضدّي». يتذكّر الغيطاني أنه عندما حصل على جائزة الدولة التشجيعية، نُشر الخبر في الجريدة التي يعمل فيها من دون ذكر اسمه. لاحظ رئيس التحرير حينها موسى صبري الأمر، فأوقف الطبع ووضع صورته، لكن الاسم بقي غائباً عن الخبر. «كنت محسوباً على الشيوعيين... وكان المسؤول عن الصفحة الثقافية في «أخبار اليوم» قد وضع قائمة بأسماء كتاب الستينيات كممنوعين من النشر».
توقَّفت حرب 1973، وبدأت «مفاوضات الكيلو 101» (مفاوضات بين المصريين وإسرائيل على بعد 101 كيلومتر من القاهرة، امتدت شهراً قبل مؤتمر جنيف). حينئذٍ شعر بأنّ ريحاً أخرى بدأت تهب، فدخل على موسى صبري وطلب إعفاءه من العمل كمراسل حربي. سأله صبري: «تحبّ تروح فين؟»، وأكمل: «قسم الدراسات؟»... لم يكن ذلك القسم سوى «كاراج للمعارضين» غير المرغوب في كتابتهم، وضمَ حينذاك عادل حسين وجمال بدوي ومصطفى طيبة ومجموعة أشخاص آخرين صُنّفوا يساريين. «كانت فترة صعبة جعلتني أزور طبيباً نفسياً». يضحك: «تعرف أننا كصعايدة نتحمّل الألم، ولا نذهب إلى الطبيب إلّا نادراً، فما بالك بالطبيب النفسي؟». كانت البداية عندما استيقظ الغيطاني في إحدى الليالي مرعوباً متوهماً أنَّه يموت. زار طبيب قلب في الصباح التالي فحوَّله إلى طبيب نفسي، وشخَّص الأخير حالته بالاكتئاب الحاد. يعلِّق الغيطاني: «منذ الليلة التي توهَّمت فيها إصابتي بالقلب قبل ثلاثين عاماً، وأنا أُحتضر».
لم يكن اكتئاب الغيطاني نتيجة مشكلات شخصية، بل نتيجة مشكلات عامة في «وطن يتحلّل ببطء». يقول: «بالنسبة إلى جيل الستينيات، كانت القضايا العامة قضايا خاصة... كنا نغضب عند قصف فيتنام بالنابالم. الآن الأمر مختلف. أشعر بأنني باطني أكثر، وبأنني متفرِّد تجاه الواقع أكثر من كوني مشاركاً فيه. ما زلت اشتراكياً، لكن رؤيتي للاشتراكية اختلفت. الاشتراكية العلمية فشلت في نظري، لكنّ فكرة العدالة الاجتماعية بقيت، وانحيازي للفقراء لم يتغير».
صاحب «التجليات» أصبح أكثر انهماكاً بلغز الوجود وفكرة الزمن والموت: «متعتي الآن قراءة كتب الفيزياء والفلك، والكتب الفلسفية الكبرى وكتب التصوف... أمّا الرواية فتأتي في ذيل اهتماماتي». ويضيف: «أتخذ الآن مسافة من الواقع، لكنّ المسافة بيني وبين نفسي، بدأت تصغر». هذا ما قد يفسر النفحة الذاتيّة في كتاباته الأخيرة: «دفاتر التدوين» التي بلغت الستّة. دفاتره أبعد ما تكون عن سيرة ذاتية، لكنّها تحاول «إيهام القارئ بأنها سيرة ذاتية، أو ما يسميه الناقد المغربي محمد برادة التخييل الذاتي». يضحك الغيطاني: «أنا لم أتزوج بغدادية مثلاً. لكنني أكتب عن أشياء تمنّيت أن أفعلها... مع التقدم في الرحلة، تذوب الفوارق بين الشخصيات العيانية التي تعرفها والشخصيات التي لم تعرفها، لذا أعيش مع شخصيات الخيال غالباً». مع إيفو أندريتش ودينو بوتزاتي وهيرمان ملفيل وشخصيات دوستويفسكي الشهيرة وأبو العلاء المعرّي، يقضي الغيطاني وقته.
يمتلك صاحب «متون الأهرام» مكتبة موسيقية هائلة، من العالم أجمع. أقربها إلى قلبه الموسيقى الإيرانية، والتركية... اعتقد ذات يوم أن هذه المكتبة يمكن أن تفسد، فقرر أن ينسخ منها نسخةً احتياطية. عندما ظهرت أجهزة أحدث للنسخ، أصبح لديه نسخ كثيرة على «سي دي»، وعلى «فلاش ميميوري» و«آي بود». الهدف مقاومة النسيان، ألهذا تكتب؟ يضحك: «الكتابة ليست مقاومة للنسيان، إنّها مقاومة للموت».
الذاكرة من وجهة نظر الغيطاني هي الوجود الحقيقي للإنسان. عرف أناساً أصيبوا بالألزهايمر. كانوا مثل خرقة بالية، أناساً معلّقين في الفراغ. يلحظ هنا أنّ الذكرى تتعامل مع الصامت دائماً. «عندما كان أخي في أميركا للدراسة، طلبت من أمي أن تسجل صوتها في رسالة لأرسلها إليه، لكنها رحلت. أحتفظ بشريط كاسيت عليه صوتها في درج مكتبي ولا أجرؤ حتى الآن على سماعه». فقدان الذاكرة يراه الغيطاني موتاً فعلياً، موت الداخل. أما موت الجسد، فقد اقترب منه أثناء عمله مراسلاً حربياً. في ذلك الوقت، اتفق مع المصور مكرم جاد الكريم رفيقه على الجبهة على أن يطلقا النار على نفسيهما إذا تعرضا للأسر، و«كنا نرتِّب لهذا الانتحار». أثناء حرب الاستنزاف أيضاً، كان يجلس في أحد مقاهي السويس. ترك مقعده فجلس عليه رجل إطفاء وفجأةً حدثت غارة جوية أودت بالأخير: «أنا أعيش الآن مصادفة».
سافر الغيطاني والشاعر الراحل محمود درويش معاً إلى باريس للمشاركة في لقاء أدبي. تبادلا خبرات خاصة في أمراض القلب التي جمعتهما. قال الغيطاني لدرويش: «إنني أمرض عندما لا أكتب». سأله درويش: «وماذا عن القراءة؟» أجاب: «لا أتوقف عن القراءة أبداً». قال درويش: «اطمئنّ إذاً على نفسك». الكتابة إذاً هي الحياة، تشبه الرغبة الجنسية. لهذا يخشى كاتبنا متاعب النهايات. «لا أنسى نجيب محفوظ في أيَّامه الأخيرة. عندما كانت لديه الرغبة في الكتابة، ليكتشف أن يده لم تعد تطاوعه. كان يريد أن يسمع أغنية ولا يستطيع. هذا الموت البطيء هو أكثر ما يخيفني؟».


5 تواريخ

1945
ولد في قرية جهينة في محافظة سوهاج (صعيد مصر)

1959
كتب أوّل قصة قصيرة له بعنوان «نهاية السكير»

1966
اعتقل على خلفية انتمائه إلى أحد التنظيمات اليسارية، وبعد ذلك بثلاث سنوات أصدر أولى مجموعاته القصصية «من أوراق شاب عاش ألف عام»

2007
حصل على جائزة الدولة التقديرية

2009
يصدر له الدفتر السابع من «دفاتر التدوين»، بعنوان «دفتر الإقامة». اعتذر أخيراً عن عدم المشاركة في مهرجان أدبي في ألمانيا، احتجاجاً على الجريمة العنصريّة التي ذهبت ضحيتها المصريّة مروى الشربيني في إحدى المحاكم الألمانيّة