وائل عبد الفتاح


لإرسال رسالة الى المحرر، انقر هنا

أوحشتنا الفضائح. منذ فترة ليست قصيرة لم تتفجّر فضيحة كبيرة. فاروق القدومي فعلها. أشعل النار في الموقد القديم. وأعلن ما كان يقال سراً أو على استحياء أو من دون أسماء. السر له جاذبيته. سحره في شرح غموض القتل أو الشك في كل شيء. ارتبطت قصة قتل عرفات بإحساس قوي بأنه غاب في لحظة احتياج إليه، وكأن القدر لم يكن وحده. كانت هناك جريمة. هكذا انتشر سر السم بقوة نظرية المؤامرة.
القدومي المعزول وشبه المعتزل ألقى ببضاعته المستهلكة في سوق شبه فارغ. إحياء قصة قتل أبي عمار فاصل مثير بين جولات الحوار الفلسطيني الخالدة. الجديد هو تحديد شركاء الجريمة. أبطال الصف الثاني. أداة القتل (بالسم). المتهمون رئيس الأمن الوقائي وقائده؛ محمود عباس «آخر أبوات» الثورة الفلسطينية، الأقرب إلى نفسية الموظف وعقليته في إدارة قضية معقدة، سجله ليس حافلاً في عمليات النضال الحربي ولا السلمي. تحكى عنه حكايات، بينها أنه ترك عرفات في جولة مفاوضات مهمة وسافر لإعداد عرس ابنه. ويحكى الكثير، ويرى، كيف أوصل القضية إلى أن تتحول إلى مبنى حكومي ومكاتب موظفين.
الشريك الثاني محمد دحلان. من جيل مختلف، قيل الكثير عن علاقاته بأجهزة استخبارات متصارعة. يبدو مكمن أسطورته في قدرة «الزواج المتعدد» من الأجهزة. دحلان يشبه فيزيائياً رجال العصابات، وهو ما يمنحه ترشيحاً لدور البطولة، بينما أبو مازن أقرب إلى الرجل الثاني في مؤامرة دبّرت حسب رواية «أبو اللطف» في اجتماع رباعي.
الفضيحة مغرية. جمهورها مضمون، وأبطالها في أدوارهم المضبوطة مع صورتهم العمومية. كاشف الفضيحة يقترب بخطى واسعة من الثمانين. ولا أمل في عودته إلى المركز بعدما اختار الهامش، بعد توقيع أوسلو والعودة إلى رام الله. لماذا فعلها؟ وما هو سر التوقيت؟
أسئلة قد تسخّن أجواء مفاوضات «حماس» و«فتح»، ولا سيما أن تصريحات القدومي وحّدت بين طرفي الحرب الأهلية الباردة، حين كشفت أن قائمة الاغتيال شملت عرفات وعبد العزيز الرنتيسي.
هنا لا يقترب القدومي من لغز موت عرفات فقط. لكنه يؤكد إشارات سابقة عن وجود خطة «تجريد» القضية من زعاماتها الكبيرة وبقاء الصف الثاني بمواهبه وخبراته وكاريزماه الأقل.
ردود الفعل عادية. غضب المتهمون. حواريّو عباس هدّدوا بمحاكمة القدومي، ودحلان اختفى وامتنع عن الرد على الصحافة، بينما سار الشك بالتوازي مع اليقين. كل التأكيدات على حدوث مؤامرة السم هي نفسها أدلة براءة، بما فيها صمت القدومي الطويل، واعتبار أنه اعتراف لا يجرؤ عليه إلا شريك. كيف حصل على محضر الاجتماع السري؟ ولماذا تأخر كشف السر؟
دوائر حول «أبو اللطف» سرّبت أنه كان خائفاً من بوش. وشعر بالأمان مع أوباما. كم من الأسرار ستكشف بعد زوال الخوف؟ ولماذا لم تنكشف حزمة أسرار كاملة؟
المنطق غائب طبعاً. والفضيحة التي تظهر بعد سريانها لفترة طويلة من دون تأكيدات، ليست جديدة تماماً. هناك من ظل يبحث عن سر موت عبد الناصر. انتشرت روايات عن قتله بالسم الطويل المدى، ورسمت سيناريوهات بناءً على تصورات الخيانة. وحكي فيها عن أصابع وراء وصول مدلّك جنّدته إسرائيل وسرب السم إلى جسد الرئيس عبر مستحضر التدليك.
السادات رغم قصته المختلفة لم يحرم «مؤامرة خيانة»، تحالف فيها، حسب الروايات الشعبية، مسؤولون مصريون رفيعو المستوى مع الاستخبارات الأميركية.
نظرية المؤامرة جاهزة. والفضيحة مريحة لأنها تشير إلى نقاط ضعف في جسد السلطة. انتشار الفضيحة يبدو أحياناً علامة على عدم قدرتها على فرض التواطؤ.
من هذه الشقوق تنفجر الفضائح. انفجارها دليل قوة جهة ما. في أميركا عندما تتفجّر فضيحة تورط رامسفيلد أو ديك تشيني في جرائم غوانتانامو أو أبو غريب، فهذا يعني أن هناك قوة ما تعلن وجودها في مواجهة سيطرة المحافظين الجدد الطويلة. هكذا أيضاً كانت فضيحة «ووترغيت» لنيكسون بشارةً بعصر مختلف في إدارة أميركا.
وحتى في الفضائح الجنسية، من غراميات بيرلوسكوني إلى لحظات كلينتون المسروقة مع مونيكا، هي إعلان عن وجود قوى شعبية تتلصّص على الحاكم ولا تتركه وحيداً.
فضيحة القدومي إعلان عن أي قوى؟ هل هو الشوق إلى فضائح لكسر النمط والتواطؤ الذي يجعل القوى العربية المسيطرة تتواطأ بخجل أو بسفور، كما فعل القذافي حين أغلق فضائية كاملة ونقل ملكيتها إلى الحكومة الليبية.
قد تكون إعلاناً عن ضعف السلطة (الفلسطينية والعربية عموماً) وتجرؤ هوامشها على مركزها. وربما هي إشارة إلى مرحلة تترتّب فيها الخلطة الفلسطينية بطريقة مختلفة. لكن الأهم أنّها ستمر مثل أحد أعراض الغيبوبة، ولن تكون أبعد من تبادل النار على منصات الإعلام أو ربما حركة هنا أو عملية هناك. لكنها مثل كل الفضائح تفتقد ثقافة المحاسبة.
لم يحاسب أحد على فضائح سابقة، وظلت بكامل رونقها صالحة للاستخدام وعابرة للأجيال، تلبّي الشوق إلى قوة الفضائح.