strong>ناهض حتر *تتجه الولايات المتحدة الأميركية، مدعومةً ـــــ بل مدفوعة ـــــ من الاتحاد الأوروبي بقوة، إلى خيار فرض أجندة سلام بين العرب وإسرائيل. واشنطن في طريقها إلى التخلي عن دور الوسيط والراعي إلى دور الالتزام والقرار. ولعل لا شيء يمنعها من أن تحشد المجتمع الدولي لإنهاء صراع ملّه العالم. استراتيجية إدارة الرئيس باراك أوباما في الشرق الأوسط الكبير، الآخذة في التبلور، تسعى إلى سلسلة من التسويات لمآزق حقبة المحافظين الجدد. فبالنسبة إلى أفغانستان (التي تخطط لندن لسحب قواتها منها)، تصوغ واشنطن «استراتيجية خروج فعالة» تنطوي على التفاهم مع «الطالبانيين غير المرتبطين بالقاعدة» وفق خطاب السياسات لوزيرة الخارجية هيلاري كلينتون (الثلاثاء 14 تموز 2009). وسيؤدي ذلك، حسبما يرى البيت الأبيض، إلى معالجة ناجعة لمشكلتي «الإرهاب» والتمرّد القبلي ـــــ السلفي في باكستان. والأخيرة سوف تهبط مكانتها لدى الأميركيين بما يساوي فشلها الاقتصادي والسياسي لمصلحة «تحالف هيكلي» مع الهند التي زارتها كلينتون للاعتراف بإنجازاتها كقوة قطبية وترتيب العلاقات الثنائية معها.

إسرائيل، بوصفها أداةً عسكرية للغرب في المنطقة، لم يعد لها ضرورة ولا مكان
مع إيران، أبدى الرئيس أوباما قدراً من ضبط النفس، والإصرار على تسوية سلمية ورضائية بشأن الملف النووي لم يعد بإمكان طهران تجاهلها، فيما حليفها السوري يضغط بكل ثقله من أجل التوصّل إلى تحييد العلاقات بين دمشق وواشنطن عن ملف الصراع مع إسرائيل، وبناء تفاهمات ثنائية حول العراق ولبنان، ومكافحة «الإرهاب» ومدّ جسور التواصل الغربي ـــــ الإسلامي، في ما يمثّل اعترافا صريحاً بدور سوريا الإقليمي، ودعم انتقالها إلى الرأسمالية الليبرالية من دون المسّ بنظامها السياسي.
المسألة العالقة بين واشنطن وطهران ليست العراق ولا إسرائيل ولا المقاومة في لبنان وفلسطين. فهذه، في الأخير، أوراق إيرانية لانتزاع شرعية الجمهورية الإسلامية كقوة إقليمية من حقها الانتساب إلى النادي النووي. وقد أكدت كلينتون بوضوح شديد أن سياسة عدم الاعتراف بالنظام الإسلامي في إيران والسعي إلى عزله، أثبتا فشلهما. لكنها في المقابل، أعادت التأكيد على القرار الأميركي بمنع طهران من امتلاك السلاح النووي، ملمّحة إلى أن هذا الملف مرتبط بقدرة الإيرانيين على انتزاع «ثقة المجتمع الدولي».
مسألة السلام مع إسرائيل هي العقبة التي تعترض تطور العلاقات الثنائية «الخاصة» بين واشنطن ودمشق. فإدارة أوباما تريد إقفال هذا الملف. وهي غير مستعدة، بعد، لتبني الموقف السوري حول حدود 4 حزيران في الجولان مقابل سلام بارد، كما يريد السوريون. وقد بدأت مراكز بحثية أميركية تعمل بالفعل على رسم خرائط لهضبة الجولان، تقسّمها إلى جزء سوري منزوع السلاح ومراقَب دولياً، وجزء يمثّل «محمية طبيعية» ـــــ تحاذي بحيرة طبريا ـــــ تحت السيادة السورية الاسمية، ولكنها منطقة حرة للطرفين. وتعكس هذه الخرائط سياق النقاش الأميركي ـــــ الإسرائيلي بشأن «تسوية ذكية» مع سوريا تحقق لها، معنوياً، مطلبها الرئيسي في حدود 4 حزيران، لكنها تضمن لإسرائيل، عملياً، السيطرة على المصادر المائية ـــــ حسبما تريد تل أبيب ـــــ أو الإفادة المشتركة منها ـــــ كما تريد واشنطن ـــــ في نموذج للتعاون والتطبيع الحار بين الدولتين.
ستواجه القيادة السورية مشكلة عويصة في ترتيب سياساتها نحو الولايات المتحدة. فالأخيرة لن تسير في تفاهم استراتيجي مع دمشق لا يشمل سلاماً تريد فرضه على إسرائيل، لكن ليس من دون أخذ مطالبها التي تراها جوهرية بعين الاعتبار.
الشروع في الانسحاب من العراق أعطى إدارة أوباما قدراً متسعاً باطّراد من حرية الحركة بالنسبة إلى طهران ودمشق. وهو ما يجعلنا نعتقد أنهما ستكونان معنيتين بالتصعيد في الساحة العراقية في المدى المنظور لاسترداد هذه الورقة التي بدأت تفلت بالفعل من القوى الإقليمية لمصلحة القوى العراقية. فحكومة نوري المالكي تتجه إلى المزيد من الاستقلالية إزاء إيران، وهي تسعى إلى مغامرة الشراكة مع المراكز الدولية في الاستثمارات النفطية لتأمين شبكة أمان سياسي حيال التدخلات الإيرانية والحد من النفوذ الأميركي على السواء. وفي المقابل، ذهب البعثيون وكوادر النظام السابق المدنيون والعسكريون بعيداً جداً في التفاهم مع الأميركيين الذين أمّنوا، بالفعل، التحاق قسم منهم في بنى النظام الحالي، بينما يضغطون بقوة لمصالحة تضمن مشاركة حزب البعث بجناحيه ومنظمات المقاومة في الحكم. ويحدث ذلك وسط تراجع ملموس للقوى الدينية وظهور قوى واتجاهات مدنية علمانية سوف يترسخ حضورها في الانتخابات التشريعية المقبلة، محققة معادلات سياسية جديدة في عراق ينأى بنفسه عن تأثيرات القوى الإقليمية، بما فيها السعودية والسلفية الوهابية و«القاعدة». وهو سياق ينشأ ويتصلّب مما يجعل محاولات التفجير الطائفي على الهامش. تبقى بالطبع قنبلة الصراع العربي ـــــ الكردي الموقوتة، لكن أثرها سيظل داخلياً، وربما في المنحى المفيد لاستعادة مركزية الدولة.
في صميم اللوحة السياسية التي رسمناها أعلاه لاستراتيجية التسويات الشرق أوسطية، نرى الإلحاح الأميركي غير المسبوق على حلّ المشكلة الإسرائيلية ـــــ لا الفلسطينية كما البروباغاندا العربية؛ فإسرائيل بوصفها أداة عسكرية للغرب في المنطقة، لم يعد لها ضرورة ولا مكان. وقد حاولت تل أبيب الحفاظ على وضعها الاستراتيجي السابق الآفل في حربين فاشلتين على لبنان وغزة. وهو ما أنتج أزمة بنيوية في السياسة والوعي الإسرائيليين، وجدت تعبيرها المأزقي ــــ لا حلها ـــــ في المضي شبه الجماعي نحو اليمين المتطرف والعدوانية الصريحة والسعي المحموم إلى الحصول على غطاء الحرب مع إيران. ويجد هذا الاتجاه أنصاراً لدى يمين الإدارة الأميركية، وتشجيعاً ضمنياً من القاهرة ـــــ الحساسة لتسويات إقليمية سوف تهمّش دورها ـــــ ومن الرياض التي سوف ينسف التطبيع المحتمل فرضه عليها مع إسرائيل، شرعية نظامها، بل صدقيّة أيديولوجيتها السلفية ـــــ الوهابية.
يقود الرئيس أوباما حملة مثابرة لإرغام النخب الإسرائيلية على التصالح، مع طي صفحة دور إسرائيل التقليدي كقوّة تدخل سريع أميركية، والانخراط في جهود إدارته لتأمين المصالح الاستراتيجية للدولة العبرية في ثلاثة مجالات أساسية هي:
ــ أولاً، تلافي الخطر الديموغرافي الفلسطيني الذي سوف يطرح، عاجلاً أم آجلاً، حل الدولة الواحدة، وذلك من خلال: 1 ــ فصل الكثافة الديموغرافية الفلسطينية في الضفة والقطاع في دولة تابعة، 2 ــ التوطين السياسي النهائي للاجئين في البلدان المضيفة.
ــ ثانياً، ضمان أمن إسرائيل بواسطة دولة فلسطينية ـــــ تحت الوصاية الأمنية الأميركية ـــــ تكون قادرة على كبح المقاومة المسلحة والانتفاضات الشعبية. وتفخر واشنطن هنا بما حققته مع سلطة رام الله باتجاه منع عمليات المقاومة في الضفة والقمع الفعال لانتفاضة كانت الحرب الإسرائيلية على غزة سوف تشعلها.
ــ ثالثاً، تأمين المشاركة الإسرائيلية في نظام الهيمنة الاقتصادية والسياسية على العالم العربي، من خلال عملية تطبيع شاملة وجوهرية وفورية.
وسيقوم أوباما بالدعاية لهذا المشروع مباشرة مع الجمهور الإسرائيلي، في موازاة ضغوط مستمرة على الأنظمة العربية للقبول بأساسياته. ولا نقدّر أن الرئيس الأميركي سوف يذهب إلى حدّ تبني اقتراح خافيير سولانا بالعمل على استصدار قرار من مجلس الأمن الدولي يتضمن عناصر التسوية العربية ـــــ الإسرائيلية المقررة أميركياً وأوروبياً، ولكننا نعتقد بأن البيت الأبيض يتجه نحو فرض تسوية دولية على الأطراف بدلاً من التفاوض بشأنها.
سلام مفروض سوف تقبله رام الله وعمان بلا تحفظات، رغم مخاوف الأولى من قفزة حمساوية نحو القبول به والمشاركة فيه، ومخاوف الثانية من أن تكون شروط التوطين السياسي هي الأخرى مفروضة باتجاه تغييرات بنيوية في النظام والدولة. وإذا كانت دمشق ستسعى إلى دفع غائلة السلام الأميركي عنها بالتمسك بخط 4 حزيران في الجولان، فإن قدرتها على الممانعة سوف تكون أضعف من أي وقت مضى بالنظر إلى ما يلي: 1ــ اتجاه النخب المسيطرة، الملحّ، إلى تجاوز حالة الحصار المفروض على نموها وتوسعها الإقليمي، وسعيها إلى الانتقال الصريح نحو الرأسمالية الليبرالية الصريحة، 2ــ تسارع الدينامية الداخلية في العراق مما سيفضي إلى إغلاق الساحة العراقية أمام التدخلات الإقليمية، 3ــ التجميد الموضوعي للجبهة اللبنانية ـــــ الإسرائيلية، إن بحكم القرار الدولي أو بحكم المعادلة الداخلية، 4ــ نجاح سلطة رام الله في شل قدرة «حماس» على النشاط في الضفة الغربية، بينما يئن قطاع غزة المدمّر تحت وطأة حصار لا يسمح بمبادرة اعتراضية.
في جولة السلام الأولى في التسعينيات، كان الجنوب اللبناني محتلّاً والمقاومة الإسلامية تحظى بدعم وطني، بينما كانت «حماس» صاعدة وحرة من الالتزامات السياسية اللاحقة كحزب حاكم في غزة، وكانت بالتالي قادرة على اعتراض مسار لم تكن إسرائيل تريده، ولم تكن واشنطن تسعى إلى فرضه. والمشهد كله تغيّر الآن، بحيث يصعب بالفعل التنبؤ بإمكانية جدية للمواجهة خارج منطق الثورات. وهي تظل ممكنة دائماً. لكن، وفق المعطيات القائمة، فإن مشروع السلام الأميركي لا يواجه اليوم تحدياً فعلياً إلّا من جانب اليمين الإسرائيلي. وإذا ما جرى التغلّب على هذا التحدي، فسوف يدخل العالم العربي في مرحلة سوداء من تجميد الحريات واستشراء القمع للأغلبيات الشعبية الرافضة للتطبيع مع إسرائيل. وقد طلبت كلينتون من الزعماء العرب، صراحةً، البدء بتهيئة شعوبهم للقبول بالتطبيع مع إسرائيل. وهي تعلم بالتأكيد أن ذلك غير ممكن إلا بالقوة.
سلام الدولة المنقوصة في فلسطين، سوف ينفجر في مواجهات داخلية عنيفة مع «حماس» وقوى المقاومة إذا واصلت رفض الاندراج في المشروع الأميركي. وسلام التوطين السياسي سوف يقود إلى مواجهات أهلية في الأردن ولبنان، قد تعصف باستقرار هذين البلدين. أما سلاح حزب الله فسيكون، وقتذاك، لا على مائدة الحوار، بل في ميدان الصراع.
وبينما تغرق الساحات الفلسطينية واللبنانية والأردنية في المواجهات الداخلية، ستجد سوريا نفسها في مواجهة استحقاقين كبيرين: الاستحقاق الوطني والاستحقاق الاجتماعي ـــــ السياسي في الداخل.
* كاتب وصحافي أردني