زينب صالحلم أكن أملك غير القلادة التي أعطاني إياها كي أهديها إياها عند حلول عيد ميلادها الرابع. خفت أن يكون آخر عيد لها بيننا فقدّمتها إليها رابع أيام العدوان عندما كنا في ملجأ لا يبصر النور في عيتا.
أوصاني بالصبر وبأن أبقى قوية كما يعرفني عندما ودّعني وذهب. أخبرني أن أحداً منا لن يستشهد، وأنه سيتقدم لخطبتي قريباً جداً، ورحل... ربما ظل في عيتا وربما التحق بمجموعات مارون أو عيناتا أو بنت جبيل. لا أعرف، لكني أعرف أنه يحبني كما يحب بندقيته وأرضه. أغمض عينيّ عليه كل مساء.
أتذكر أول أيام العدوان عندما خرجنا من منزلنا إلى ذلك الملجأ. يومها، حاولت إخراج ما أستطيع. يومها تلاشت قيمة العطورات والتحف والأكسسوارات التي كنت أجمعها. يومها آن لأزهار أمي أن تذبل وآن لنا أن نودع منزلاً عشنا فيه العمر كله بلحظة واحدة تقف على الحافة بين عمرين، وبين زمنين.
فتحت عيني هذا الصباح على صوت تموز يناديني. قمت من السرير، ووقفت على شرفة تطل على ماض كان حاضراً منذ وقت ليس بطويل. مسحت النعاس عن عيني فرأيتني أمسح عنهما التراب والردم والغبار، نظرت إلى جانبي فإذا بيد شقيقتي مدفونة بين أكوام من الحجارة لا أستطيع تحريكها. حاولت بكل طاقتي إزاحة شيء ما عنها لكنني عجزت. فقمت أبحث عن أحد من الأفراد الخمسين الذين يشاركونني الملجأ علّي أرى أحداً منهم حياً. سمعت والدي يناديني، لحقت الصوت وإذا برجله تحت الحائط المهدوم وهو يبكي قائلاً: لقد استشهد شقيقك. لأول مرة يعجز والدي عن جعلي أشعر بالأمان. لم يكن هادئاً ولا حكيماً ولا صبوراً، كان طفلاً صغيراً. في تموز فقدت إحساسي بالزمن. عندما حملوا أختي وقعت منها تلك القلادة التي كانت تسبح بدمائها. لم أبالِ بها إذ رأيتها من خلف عازل من الدموع يجعلك ترى كل شيء في الحياة أسود فقط. وقتها تلاشت قيمتها كأي شيء جميل في العالم الذي فقد ألوانه.
أختي في الصورة لم تكبر، لم يطُل شعرها ولم يزدد طول قامتها ولا تبدّلت أسنانها بينما يغيّر والدي صورتها على الحائط كل عام. أخي لم يعد يسرّح شعره على الموضة، ولم يخطب بعد مع أن حبيبته تزوجت، وأن بيتنا بعد الحرب صار طابقين يسع أولاده الذين لن يأتوا.
ما الذي تغير بعد مرور 3 أعوام؟ لا شيء، سوى أن عائلتي نقصت فردين وبيتنا تغيرت معالمه، وصار يماشي الموضة. مرت 3 أعوام لم أقبّل فيها أختي ولم أتكلم مع أخي. أحداث كثيرة حصلت معي احتجت فيها إلى نصائحه، وإلى نظرات البراءة من أختي. أنا تغيرت وربما هما أيضا تغيّرا. بينما لم يمر يوم واحد على أبي من دون أن يذكرهما. فهو دائم الحديث عن آية وعلي، وأمي بالكاد صارت تبصر من كثرة البكاء.
تموز هو أحد لصوص قدري الذي سلبني ذكرياتي ومنزلي وأخوَي. بتدمير البيت ذهبت ذكريات الحب الأول، وبرحيل أخوَي سُرقت طفولتي. يتكلمون عن أسباب الحرب السياسية وغيرها وعن الانتصار وعن فلسفة حب الحياة ولا يتكلم والدي إلا عن أخوَي اللذين لم يزدد عمراهما بينما كبر السياسيون وأبناؤهم في العمر 3 أعوام.
ذكرياتي صارت كئيبة. أخي لم يهنأ بعرسه لكن موته لم يذهب سدى. الأسرى تحرّروا وأقاموا الأعراس... لن أنسى أخوَيّ ما حييت والتاريخ أيضاً لن ينسى عيتا.. عرس شقيقي صار أعراساً وقلادة أختي صارت وسام عز على رقبة أمّتي.