حسام كنفانيرمى فاروق القدومي قنبلته ومشى. عمد إلى بلورة ما كان يدور منذ استشهاد الرئيس الراحل ياسر عرفات، ووضعه في صيغة اتهام مباشر للرئيس الفلسطيني محمود عباس والقيادي «الفتحاوي» محمد دحلان. القدومي صدّق على رواية التسميم عبر وثائق قال إنها محضر لقاء جمع عباس ودحلان مع أرييل شارون وشاؤول موفاز ووفد أميركي، ليضيف عناصر إضافية إلى ما كان متداولاً في السابق، وخصوصاً المحضر، الذي سبق أن أعلنه مستشار عرفات، بسام أبو شريف، وجمع شارون وموفاز، إضافة إلى اتصال هاتفي بين رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق والرئيس الأميركي السابق جورج بوش.
في رواية القدومي مغزى عام قد يكون صحيحاً، وهو أن التسميم، في حال حصوله، فإنه ما كان يمكن أن يحصل من دون وجود أطراف داخلية على تماس مباشر مع الزعيم الراحل. ووجهة الاتهام لعباس ودحلان غير مستبعدة، وخصوصاً في ظل القطيعة التي كانت قائمة في الأيام الأخيرة لأبو عمار مع أبو مازن وأبو فادي، وابتعاد الأخيرين عن مقرّ المقاطعة خلال الحصار.
لكن هذا لا يعفي أبو اللطف من المسؤولية المباشرة أو المعنوية عن الجريمة التي يتهم عبّاس ودحلان بارتكابها، ولا سيما أن تصريحاته تؤكّد أن الوثائق التي أعلنها هي في حوزته منذ ما قبل استشهاد عرفات، وأن أبو عمار أوصلها إليه واتصل به للتأكد من تسلّمه للوثائق. أي إن الوثيقة في حوزة أبو اللطف منذ عام 2004 على أقل تقدير. ورغم ذلك، فإن القدومي اصطف إلى جانب ترشيح أبو مازن لخلافة عرفات في انتخابات الرئاسة مطلع عام 2005، حتى إنه ظهر على قناة «الجزيرة» في ذلك الحين ليسخر من ترشيح الأسير مروان البرغوثي للانتخابات «وافتقاره إلى القيادة الحقيقية التي تتجسد في أبو مازن». حتى إنه هدّد بطرد البرغوثي من حركة «فتح» إذا لم يسحب ترشيحه، على اعتبار أنّه «خرج عامداً متعمّداً عن قرار اللجنة المركزيّة لحركة فتح».
موقف مستغرب لرجل يدّعي امتلاكه وثائق تثبت ضلوع أبو مازن في اغتيال عرفات. لكنّ الاستغراب يُفهم بالعودة إلى تفاصيل «توزيع تركة» أبو عمار، إذ جرى التفاهم بين أبو مازن وأبو اللطف على تقاسم الرئاسات، فيتولّى عباس السلطة ومنظمة التحرير والقدومي يرأس «فتح». اتفاق لم يدم طويلاً، حين استعاد عباس قيادة الحركة، ليدخل في مرحلة تجاذب جديدة مع القدومي، المعارض لاتفاق أوسلو الذي وقّعه أبو مازن بيده اليسرى.
كان من المفترض، لو أن صمت القدومي كان جرّاء اتفاق تقاسم الصلاحيات، أن يخرج بوثيقته بمجرّد انفراط الاتفاق. لكنه لم يفعل. على العكس، فقد دخل في جولات من التفاوض والسجال والمصالحة مع عباس. ففي الأول من أيار عام 2006 كانت المصالحة الأولى في تونس، حين ظهر أبو مازن وأبو اللطف يداً بيد وبينهما ضحكة مشتركة. ثم في حزيران الماضي كانت المصالحة الثانية في عمّان خلال اجتماع اللجنة المركزيّة لحركة «فتح». حتى إن الطرف الثاني في الاتهام لم يكن بعيداً عن القدومي، فقد تولّى محمد دحلان مهمة وساطة بينه وبين عبّاس، وكان من نتيجتها، الشهر الماضي أيضاً، تصريح شهير لمستشار أبو اللطف، أنور عبد الهادي، الذي قال بالحرف «نختلف مع أبو مازن ولا نختلف عليه».
ما الذي استجدّ خلال شهر ليغيّر القدومي موقفه و«يختلف على أبو مازن»؟ هل لمس نيّة لدى عبّاس للتنصّل أيضاً من بنود المصالحة الأخيرة بينهما في عمّان، والتي يتخلى بموجبها عبّاس عن رئاسة «فتح» ولجنتها المركزية ويتفرّغ لرئاسة السلطة وانتخابات الرئاسة، مقابل وقف القدومي إصدار البيانات والتعميمات، وتقليص اتصالاته بسوريا وإيران؟
قد يكون الأمر كذلك، وربما قنبلته جزء من تصفيّة حسابات إقليمية مع السلطة الفلسطينية، ولا سيما أن توقيت إعلان الوثيقة ومصدرها من عمّان، جاء متزامناً مع بوادر الأزمة بين السلطة والأردن بشأن تقاسم الحصص والمكتسبات من مشروع قناة البحرين، التي ستربط البحر الميت بالبحر الأحمر. وما كان القدومي ليعقد مؤتمره الصحافي من دون موافقة العاصمة الأردنيّة، التي ترى في المعارضة الفلسطينية للمشروع خدمة للمصالح المصريّة المتضررة من القناة وتأثيرها على قناة السويس.
حسابات أخرى، قد يكون القدومي، الذي عُرف بمراعاته لكل الأطراف الناشطة فلسطينياً، ضالعاً فيها، ولا سيما ما يروّج أخيراً داخل السلطة عن تشجيع طرف مستجد إقليميّاً لمحاولات القدومي الانشقاق عن «فتح» وتنظيم مؤتمر موازٍ للمؤتمر السادس للحركة. لكن لا شك في أن القدومي يدرك جيداًَ أن تجارب الانشقاق في «فتح» فاشلة كليّاً، بدءاً من عام 1983 مع سعيد موسى (أبو موسى) وموسى محمود العملة (أبو خالد) و«فتح ـــــ الانتفاضة»، وصولاً إلى خالد أبو هلال وحركته «فتح الياسر» في غزة، التي دعمتها «حماس» بالمال والعتاد والعناصر، ثم ما لبثت أن تحوّلت إلى مسمى «حركة الأحرار الفلسطينية».
بناءً عليه، وفي ظل غياب أي بوادر محاسبة وتدقيق في صحة الاتهامات من عدمها، يبدو أن القدومي سيكون الضحيّة الوحيدة لمؤتمره الصحافي، مع الاتجاه إلى عزله عن رئاسة الدائرة السياسيّة لمنظمة التحرير وطرده من حركة «فتح»، في المؤتمر السادس، وبالتالي فإن قنبلته ستنفجر فيه فقط.